سلسلة بحوث فقهية معاصرة/ أحكام استعمال مياه الصرف الصحي.. تأليف الأستاذ والباحث محمد الأمين باباه محمد محمود .

اثنين, 20/11/2017 - 08:37

الـــمقدمـــــة :

بسم الله الرحمن الرحيم وصل الله علي نبيه الكريم ، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل العميم ، وبعد: فإنما يشهده العصر من مستجدات متنوعة ومتسارعة علي مختلف جوانب الحياة لايقف عند حد العادة ولايراعي ضوابط العبادة ، وكان لازدهار النمو الحضاري والتطور الفكري ، وفيضان الهجرة وازدياد البعثات الدراسية والدوبلوماسية  نصيب الأسد في استيراد ماغاب عن بلاد الإسلام من المشكلات المستحكمة الحلقات، والفاتحة باب النزاعات، مما قد يشكل خطرا علي  الشريعة الإسلامية بالإساءة لفهم نصوصها, ولي أعناقها ،وتذليلها بغية الإنسجام مع ما هو غزو للإسلام وهدم للدين , وكان من بين تلك المحاولات هدم الركن الثاني من أركان الإسلام الخمسة (الصلاة) متجليا ذلك الهدم في الإخلال في طهورية الماء وسيلة طهارتها نتيجة ظاهرة مياه الصرف الصحي ، والتي  سنتناولها بحثا ضمن  المنهجية التالية:

المقدمة : وفيها توطئة للموضوع

المبحث الأول: معالجة مياه الصرف الصحي وآراء العلماء فيه:

المطلب الأول:مفهوم الصرف ومراحل المعالجة:

المطلب الثاني: آراء العلماء في مياه الصرف الصحي:

المبحث الثاني: عرض الفتاوى ومناقشتها:

المطلب الأول:عرض الفتاوى:

المطلب الثاني: مناقشة الفتاوى:

الخاتمة: وفيها خلاصة لماورد في ثنايا البحث.

 

 

 

 

المبحث الأول : مراحل التنقية وآراء العلماء فيها:

وقبل الشروع في جزئيات هذا المبحث لابد لنا أن نتعرف علي مفهوم الصرف الصحي ـ كمركب إضافي ـ ودواعي تصفيته  لنتصورذلك تصورا دقيقا ، ونتمكن من استيعاب أحكامه ، وذلك في النقطتين التاليتين:

 النقطة الأولي: تعريف الصرف الصحي  : حيث قيل :هو عبارة عن مياه ناتجة عن استخدام الإنسان للماء في الأنشطة الحياتية العادية مثل ما يتعلق بالغسيل والتنظيف والاستنجاء ونحو ذلك .

وقيل :هو المياه الناجمة عن مختلف الحياة المنزلية وكل ما يمكن أن يصب في شبكة الصرف الصحي للمدينة .

وهي : خليط من النجاسات والأوساخ مع المياه النقية . 

ونلاحظ أن هذه التعريفات متحدة المعنى ، مختلفة الألفاظ وإذا اتحدت المقاصد فلاعبرة بالألفاظ .

النقطة الثانية : دواعي التصفية: يروج لهذه التصفية بأنه :لما كان الماء عنصرا هاما ،وركيزة أساسية في مختلف  أوجه الحياة ، وكان لقلة الموارد المائية العذبة مشكلة عالمية مما يستدعي الحاجة الماسة للترشيد في استعمال المياه المتاحة ،وإعادة استعمال مياه الصرف الصحي بعد تنقيتها ومعالجتها بالوسائل الحديثة منذ فترة من الزمن إلا أنه ازداد في السنوات الأخيرة وكثر الحديث عنه والاهتمام به نظرا للزيادة المستمرة في كميات استهلاك المياه والتي ترتبط  بزيادة وارتفاع مستوي المعيشة والحياة الرفاهية، كما كان لاستخدام المواد الكيميائية والمنظفات المختلفة دورا هاما في ذلك.

وبعد التعرف علي ذلك المفهوم نصرف القول إلي الحديث إلى ما ذكرنا سابقا وذلك في المطلبين التاليين:

المطلب الأول : كيف تتم التنقية ؟ :

 إن عملية تنقية المجاري تمر بمراحل عدة  نوضحها في ما يلي:

المرحلة الأولى: ويسمونها مرحلة ما قبل المعالجة ، وتهدف هذه المعالجة إلى تخفيض الملوثات الموجودة في مياه المجاري ، وخاصة التخلص من كامل العوالق الصلبة السهلة الترسيب ، وبالتالي يتم تخفيض تركيز المواد الصلبة العالقة والتلوث العضوي ، وهذه تشتمل على ثلاثة أمور :

1 - إزالة المواد الطافية والأجسام الكبيرة مثل الأخشاب والحديد والمواد البلاستيكية.

2 - إزالة الرمل الناعم عن طريق الترسيب.

3 - إزالة  الزيوت والشحوم وبعض المواد الأخرى خفيفة الوزن وبعض الفضلات الصناعية عن طريقة تعويمها في أحواض التعويم الخاصة.

المرحلة الثانية: وهي المعالجة الأولية لهذه المياه القذرة وتتم تلك المرحلة من خلال أحواض الترسيب الأولي التي تهدف إلي  فصل وإزالة المواد الصلبة الناعمة القابلة للترسيب بشكل كامل والتي تشكل نسبة ملحوظة منها بعض المواد اللاعضوية التي تعتبر عبئاً على مرحلة المعالجة الثانوية  .

وقد تكون هذه الأحواض دائرية أو مستطيلة أوغيرهما: كأحواض المرسبات المزدوجة وهي التي تحتوي علي أمشاط لإزالة الحمأة المترسبة في مركز الحوض وسحبها وضخها في الخارج وأحيانا تضاف بعض المواد الكيميائية لتسريع عملية الترسيب .

المرحلة الثالثة:المعالجة الحيوية: تعتبر هذه المرحلة من أهم مراحل المعالجة التي يجب تطبيقها على المياه الملوثة في المحطة وتهدف هذه المعالجة إلى أكسدة المواد العضوية المختلفة في مياه المجاري وتحويلها إلى مركبات مستقرة وكتلة حيوية تتألف في معظمها من البكتيريا وبعض الكائنات الدقيقة التي يمكن فصلها عن المياه ومعالجتها على انفراد من أجل الحصول على مياه خالية عملياً من التلوث العضوي  .

كما تقوم بعض أنواع البيكتيريا بتكسير المواد العضوية حيث تعد العناصر العضوية مصدرا لغذاء تلك البكتيريا فتحصل هذه البكتيريا علي الطاقة اللازمة الاستمرار حياتها بقدرتها علي الحركة والتكاثر، وإنتاج خلايا جديدة فيتم تحليل هذه المركبات العضوية  إلي مواد غازية متطايرة.

المرحلة الرابعة: مرحلة الترسيب الثاني: ويتم تطبيق هذه المرحلة عند الحاجة  إلي ماء نقي بدرجة متقدمة حيث يتأكد من خلالها إزالة كافة الملوثات السامة والمواد العضوية الخبيثة  عن طريق إضافة المواد الكيميائية التي تحدث التغيرات الجذرية ،كما يقع هذا الترسيب عن طريق الترشيح الرملي الذي يسمح بنفاذ الماء وحجز المواد العالقة التي تم ترسيبها  .

المرحلة الخامسة: وتسمي بالمرحلة الثلاثية: وتعتبر  هذه كمعالجة إضافية من أجل تحقيق إزالة المواد العالقة الناعمة ، والقضاء علي العوامل الممرضة مثل البكتيريا وماشابهها من مسببات الأضرار الصحية.

المرحلة السادسة والأخيرة: تعقيم المياه  : وتتم هذه العملية بالقضاء على كافَّة أنواع البكتيريا والميكروبات من خلال استعمال المضادات الكيميائية .

المطلب الثاني:آراء العلماء في المسألة: عندما  عمت البلوي بوجود ظاهرة مياه الصرف الصحي، فقد اعتني بمعالجة أحكامها الفقهاء المتأخرون والباحثون المتطلعون وانقسموا في ذلك علي رأيين أساسين هما:

الرأي الأول :القائلون بطهارتها وهم الأكثر: إن هذه المياه  إذا تمت معالجتها بالطرق  المعروفة المتقدمة ولم يبق للنجاسة فيها أثر من طعم أولون أورائحة فيجوز استعمالها عادة وعبادة لأنها طاهرة ومطهرة ، وهذا يوافق غالبا ماعند الفقهاء المعاصرين والباحثين المتطلعين  كما أنه هو غالب ما أفتت به المجامع الفقهية والهيئات العلمية باعتبار أدلة كان من أهمها الاستحالة من حال النجاسة إلي حال الطهورية  .

الرأي الثاني: القائلون بنجاستها :  وهم الأقل عددا ـ كعادة أهل الحق ـ حيث قالوا بأن مياه المجاري لاتقبل التطهير علي الإطلاق لما تتضمنه من علل تقتضي المنع : كالنجاسة العينية مثلا فإن هذه المياه يوجد فيها كثير من فضلات بني آدم ـ وإن خفي ذلك ـ لونا وطعما ورائحة .

وأن الضرر حاصل فيها لما تحمل في ثناياها من السموم والميكروبات.

كما أن هناك سمة تغلب عليها بل لايمكن أن تنفصل عنها مهما وقع من المعالجة ألا وهي سمة الإستقذار والإستخباث لأنها مياه مستقذرة  في عرف الناس وعاداتهم.

ولايمكن استحالتها من نجاسة عينية إلي طهارة مطلقة كما يري البعض .

وهنا لايخفاك أن مدار الحكم  يرجع إلي الخلاف الجوهري بين الفريقين بناء علي التخريج لهذه النازلة علي مسألة الإستحالة التي وقع الخلاف فيها قديما بين علماء الأمة،

فنقول:هل لاستحالة العين النجسة إلي مادة أخرى مغايرة في التركيب والأوصاف،أثر في الحكم بالطهارة أوعدمها ؟؟

الجواب: اختلف العلماء في تلك المسألة علي قولين:

القول الأول: القائلون بأن الاستحالة تكسب الطهارة : قرر أصحاب هذا القول أن الإستحالة لها أثر بالغ وأصل منيع في طهارة النجاسات وانتقالها من حيز الحرمة إلي الطهارة كما يقع بها العكس، ومن هؤلاء السادة المالكية  علي القول المشهور  والحنابلة في إحدي الروايتين  وهو قول للأحناف , وبه قال ابن حزم الظاهري  

واستدل هؤلاء بأدلة من الكتاب والسنة والتتبع والإستقراء منها:

ــ قوله تعالي: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ،

ووجه الدلالة من هذه الآية أن الأشياء بعد استحالتها وزوال أوصاف النجاسة عنها صارت طيبة فهي طاهرة.

ــ و من ذلك ماورد من الأحاديث  في طهارة المسك وجلود الميتتة المأكولة اللحم بعد الدبغ وماشابه ذلك من الأدلة.

ــ ومما يدل لذلك القياس:حيث قررابن القيم جواز الطهارة المطلقة بالإستحالة قياسا علي الخمر كما في قوله :وعلى هذا الأصل فطهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس ، فإنها نجسة لوصف الخبث، فإذا زال الموجب زال الموجب، وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها بل وأصل الثواب والعقاب، وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت،

كما يدل الإستقراء والتتبع علي ذلك كما ذكر ابن تيمية: أن كل ما بدأ الله بتحويله وتبديله من جنس إلي جنس حيث تزول حقيقة النجس واسمه التابع للحقيقة  كجعل الخمر خلا والعلقة مضغة ولحم الجلالة الخبيث طيبا وكذلك بيضها ولبنها والزرع المستسقى بالنجس إذا سقي بالماء الطاهر، وغير ذلك، فإنه يزول حكم التنجس، ويزول حقيقة النجس واسمه التابع للحقيقة، وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه ؛ فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض فإن الله يحولها من حال إلى حال، ويبدلها خلقاً بعد خلق، ولا التفات إلى موادها وعناصرها. وأما ما استحال بسبب كسب الإنسان؛ كإحراق الروث، حتى يصير رماداً، ووضع الخنزير في الملاحة، حتى يصير ملحاً ففيه خلافٌ مشهور. وللقول بالتطهير اتجاه .

ولا يكون واردا عند هؤلاء بل من الممتنع عندهم بقاء حكم الخبث إذا زال اسمه ووصفه لأن الحكم تابع للإسم والوصف دائر معه وجودا وعدما .

ومما يوضح ذلك ويدعمه أقوال العلماء التالية:

ــ قال بن نجيم أثناء حصره لما يقع به التطهير:والسابع انقلاب العين ، فإن كان في الخمر فلا خلاف في الطهارة، وإن كان في غيره كالخنزير والميتة تقع في المملحة فتصير ملحا يؤكل والسرقين والعذرة تحترق فتصير رمادا تطهر عند محمد خلافا لأبي يوسف وضم إلى محمد أبا حنيفة في المحيط وكثير من المشايخ اختاروا قول محمد.

ــ قال بن عابدين: ـ معلقا علي صاحب الدر المختار عند قوله :والمسك طاهر حلال وكذا نافجته مطلقا على الأصح، فقال لاستحالته إلى الطيبية، لأنه وإن كان دما فقد تغير فيصير طاهرا كرماد العذرة ، وقال والمراد بالتغير الاستحالة إلى الطيبية وهي من المطهرات عندنا،

ثم قال بعد ذلك ـ  معلقا علي القول بطهارة الخنزير إذا وضع في مملحة فانقلب ملحا والقذر إذا وقع في بئر وصار حمأة لانقلاب العين ـ  قال في الفتح: وكثير من المشايخ اختاروه، وهو المختار؛ لأن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها فكيف بالكل؟ فإن الملح غير العظم واللحم، فإذا صار ملحا ترتب حكم الملح .

ــ قال ابن حزم: وكذلك إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم فيه، وانتقل إلى اسم آخر وارد على حلال طاهر، فليس هو ذلك النجس ولا الحرام، بل قد صار شيئا آخر ذا حكم آخر .

وكذلك إذا استحالت صفات عين الحلال الطاهر، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم فيه، وانتقل إلى اسم آخر وارد على حرام أو نجس، فليس هو ذلك الحلال الطاهر، بل قد صار شيئا آخر ذا حكم آخر كالعصير يصير خمرا، أو الخمر يصير خلا.

القول الثاني: أن الإستحالة لاتقتضي الطهارة: ذهب كثير من العلماء إلي أن الإستحالة لاتؤثر في الحكم ـ سلبا ولاإيجاباـ ولاتكسب الطهارة بأي حال من الأحوال إلا في مسائل محصورة في كتب أهل العلم كانقلاب الخمرخلا مثلا وكان فرسان هذا القول الشافعية  والحنفية  في أحد القولين  وهو أصح الروايتين عن الحنابلة  كما أنه قول للمالكية وإن كان غير مشهور،

ومن أهم مااستدل به أصحاب هذا الفريق مايلي:

1ــ تعليلهم  القول بعدم  تأثير الإستحالة في الطهارة  بأنها نجاسة لم تحصل بالاستحالة . فلم تطهر بها، كالدم إذا صار قيحا أو صديدا، وخرج عليه الخمر، فإنه نجس بالاستحالة، فجاز أن يطهر بها.

1ــ كما استدلوا بأن الرماد أجزاء لتلك النجاسة فتبقى النجاسة من وجه فالتحقت بالنجس من كل وجه احتياطا  وعليه درج الشيخ خليل  في مختصره.

وقال ابن قدامة : ظاهر المذهب، أنه لا يطهر شيء  من النجاسات بالاستحالة، إلا الخمرة، إذا انقلبت بنفسها خلا، وما عداه لا يطهر؛ كالنجاسات إذا احترقت وصارت رمادا، والخنزير إذا وقع في الملاحة وصار ملحا،

وعلق الماوردي علي قول ابن قدامة بقوله هذا المذهب بلا ريب. وعليه جماهير  الأصحاب ونصروه.

وجاء في مغني المحتاج :ولا يطهر نجس العين بغسل  ولا باستحالة كالكلب إذا وقع في ملاحة فصار ملحا، أو احترق فصار رمادا.

وقال النووي :ولا يطهر من النجاسات بالاستحالة  إلا شيئان أحدهما جلد الميتة... والثانى الخمرة إذا استحالت بنفسها خلا فتطهر بذلك.

الترجيح: بعد ما انتهينا من سرد الأقوال الواردة في المسألة وأوردنا بعض الأدلة والمستندات لتك الأقوال والآراء يتضح جليا أن الإستحالة لاتكسب الطهارة ولاتؤثر في الأحكام الشرعية ولايوجد شيء من ذلك إلا ماتناولته النصوص, وقامت عليه الأدلة كاستحالة الخمر ونحوه .

وتوجيها لذلك فإن القائلين بالإستحالة محجوجون بعدة أدلة منها ــ علي سبيل المثال ــ مايلي:

1 ـــ  أن قولهم بتبعية الحكم للإسم  الذي ورد به الحكم بحيث ينتفي الحكم بانتفاء الإسم أمر مردود بالنظر إلي جلد الميتة قبل حصول الدبغ وبعده، لأن الإسم الذي يطلق عليه لايتغير لاقبل الدبغ ولابعده وإن كان حكمه بعد الدبغ مخالفا لماكان عليه قبله.

2 ـــ أنهم قاسوا  قياسا مع الفارق وذلك واضح في قياسهم على أصل تخليل الخمربالمعالجة الذي وقع فيه الخلاف بين الأئمة ومعلوم أنه لايقاس فرع علي أصل مختلف فيه.

3 أن ترتيب الشرع لوصف النجاسة علي حقيقة العين النجسة كانتفاء الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها، ليس من الأمور المسلمة علي الإطلاق لأن مااستحال عن النجاسة أصله من العين النجسة ولم يحصل بعد الإستحالة مايزيل عنه تلك النجاسة، فيبقي على الحكم الأصلي.

4 ــ أن القول بإطلاق استحالة هذه المياه وما في معناها يخشي منه عدم تلقي منة الماء بالقبول لأنه إذا كانت الأشياء تطهر وحدها فأي فائدة حينئذ في الماء.

5 ــ أنه من الغريب استنباط الاستحالة من آية اللبن:(وإن لكم في الأنعام لعِبْرة ً نسقيكم ممَّا في بطونه من بين فرثٍ ودمٍ لبَنا خالصا سائغا للشاربين) اعتقاداً أنه كان دماً, كما ذهب إليه بعض من لم نذكره ،إذ أن البيْنِيَّة في إخراج اللبن لا تعني الاستحالة من الدم بل هي بَيْنِيَّة مُرُورٍ,

فاللبن انما استحال من العلف،وخرج من بين الدم والفرث كما يؤخذ من سياق الآية الكريمة، وإلا فقد بقي على هذا المستنبط دورالفرث .

المبحث الثاني :عرض الفتاوى ومناقشتها: وتناولناه في المطلبين التاليين:

المطلب الأول :عرض الفتاوى:

 

 أولا: الفتاوى المجيزة :

     1 ــ   خلاصة فتوي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء :

وفيه: أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال تغيره بصب ماء طهور فيه باتفاق، أو بطول مكث، أو تأثير الشمس، ومرور الرياح عليه، أو برمي تراب ونحوه فيه، على الراجح عند الفقهاء، لزوال الحكم بزوال علته . 

وعلى هذا: فإذا كانت مياه المجاري المتنجسة - وهي بلا شك كثيرة - تتخلص بالطرق الفنية الحديثة مما طرأ عليها من النجاسات، فإنه يمكن حينئذ أن يحكم بطهارتها، لزوال علة تنجسها، وهي تغير لونها، أو طعمها، أو ريحها بالنجاسة، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، 

وبذلك تعود هذه المياه إلى أصلها، وهو الطهورية، ويجوز استعماله في الشرب ونحوه، وفي إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل بها الطهارة من الأحداث والأخباث، إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها، فيمتنع استعمالها فيما ذكر محافظة على النفس، وتفاديا للضرر، لا لنجاستها، ولكن لو استعملها في إزالة الأحداث، أو الأخباث صحت الطهارة،

وينبغي للمسلمين أن يستغنوا عن ذلك ويجتنبوه، اكتفاء بالمياه الأخرى، ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، احتياطا للصحة، واتقاء للضرر، وتنزها عما تستقذره النفوس، وتنفر منه الطباع والفطر السليمة. .

      2 ــ   ثم صدر بعد ذلك قرار هيئة كبار العلماء  رقم: (64)، في (25/10/1398هـ)، والذي جاء فيه: بناء على ما ذكره أهل العلم من أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال تغيره بنفسه، أو بإضافة ماء طهور إليه، أو زال تغيره بطول مكث، أو تأثير الشمس، ومرور الرياح عليه، أو نحو ذلك، لزوال الحكم بزوال علته.

وحيث إن المياه المتنجسة يمكن التخلص من نجاستها بعدة وسائل، وحيث إن تنقيتها وتخليصها مما طرأ عليها من النجاسات، بواسطة الطرق الفنية الحديثة لأعمال التنقية يعتبر من أحسن وسائل الترشيح والتطهير، حيث يبذل الكثير من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات، كما يشهد بذلك ويقرره الخبراء المختصون بذلك، ممن لا يتطرق الشك إليهم في عملهم وخبرتهم وتجاربهم..

لذلك، فإن المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة، بحيث تعود إلى خلقتها الأولى، لا يرى فيها تغير بنجاسة من طعم ، ولا لون، ولا ريح، ويجـوز استعمالها في إزالة الأحـداث والأخـباث، وتحصل الطهارة بها منها، كما يجوز شربها، إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها، فيمتنع ذلك، محافظة على النفس، وتفاديا للضرر لا لنجاستها 

والمجلس إذ يقرر ذلك: يَستحسن الاستغناء عنها في استعمالها للشرب متى وجد إلى ذلك سبيل، احتياطا للصحة، واتقاء للضرر، وتنزها عما تستقذره النفوس، وتَنفِر منه الطباع . 

      3 ــ وفي عام (1989م) اجتمع مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع  لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من يوم الأحد (13 رجب 1409هـ - الموافق 19 فبراير 1989م)، إلى يوم الأحد (20 رجب 1409هـ - الموافق 26 فبراير1989م)، ونظر في السؤال عن حكم ماء المجاري بعد تنقيته، هل يجوز رفع الحدث بالوضوء والغسل به؟ وهل تجوز إزالة النجاسة به؟

وبعد مراجعة المختصين بالتنقية بالطرق الكيماوية، وما قرروه من أن التنقية تتم بإزالة النجاسة منه على مراحل أربع::

وهي الترسيب، والتهوية، وقتل الجراثيم، وتعقيمه بالكلور، بحيث لا يبقى للنجاسة أثر في طعمه ولونه وريحه، وهم مسلمون عدول موثوق بصدقهم وأمانتهم ، لذلك قرر المجلس ما يأتي  :

إن ماء المجاري إذا نقي بالطرق المذكورة، أو ما يماثلها، ولم يبق للنجاسة أثر في طعمه، ولا في لونه، ولا في ريحه، صار طهورا، يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به ، بناء على القاعدة الفقهية التي تقرر: (أن الماء الكثير الذي وقعت فيه نجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه، إذا لم يبق لها أثر فيه).  

ثانيا: الفتاوي المانعة : ومن أهمها فتوي العلامة والحبر الفهامة عالم الشريعة والحقيقة عضو المجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة الدكتور بكر أبي زيد ــ رحمه الله تعالي ــ حيث أفتي بما نصه: 

الحمد لله، وبعد... فإن المجاري معدة، في الأصل، لصرف ما يضر الناس، في الدين والبدن، طلبا للطهارة، ودفعا لتلوث البيئة،

وبحكم الوسائل الحديثة لاستصلاح ومعالجة مشمولها، لتحويله إلى مياه عذبة، منقاة، صالحة للاستعمالات المشروعة، والمباحة مثل: التطهر بها، وشربها، وسقي الحرث منها، بحكم ذلك، صار السبر للعلل، والأوصاف القاضية بالمنع، في كل أو بعض الاستعمالات، فتحصل أن مياه المجاري قبل التنقية معلة بأمور:

الأول: الفضلات النجسة بالطعم واللون والرائحة،

الثاني: فضلات الأمراض المعدية، وكثافة الأدواء والجراثيم البكتريا ،

الثالث: علة الاستخباث والاستقذار، لما تتحول إليه باعتبار أصلها، ولما يتولد عنها في ذات المجاري، من الدواب والحشرات المستقذرة طبعا وشرعا،

ولذا صار النظر بعد التنقية في مدى زوال تلكم العلل، وعليه : فإن استحالتها من النجاسة - بزوال طعمها ولونها وريحها - لا يعني ذلك زوال ما فيها من العلل والجراثيم الضارة ،

والجهات الزراعية توالي الإعلام بعدم سقي ما يؤكل نتاجه من الخضار، بدون طبخ، فكيف بشربها مباشرة؟ ومن مقاصد الإسلام: المحافظة على الأجسام، ولذا لا يورد ممرض على مُصِحٍ، والمنع لاستصلاح الأبدان واجب، كالمنع لاستصلاح الأديان، ولو زالت هذه العلل، لبقيت علة الاستخباث والاستقذار، باعتبار الأصل، والماء يعتصر من البول والغائط ، فيستعمل في الشرعيات والعادات على قدم التساوي.

وقد علم من مذهب الشافعية، والمعتمد لدى الحنبلية، أن الاستحالة هنا لا تؤول إلى الطهارة، مستدلين بحديث النهي عن ركوب الجلالة وحليبها، رواه أصحاب السنن وغيرهم، ولعلل أخرى.

مع العلم: أن الخلاف الجاري بين متقدمي العلماء، في التحول من نجس إلى طاهر، هو في قضايا أعيان، وعلى سبيل القطع، لم يفرعوا حكم التحول على ما هو موجود حاليا في المجاري، من ذلك الزخم الهائل من النجاسات، والقاذورات، وفضلات المصحات، والمستشفيات، وحال المسلمين لم تصل بهم إلى هذا الحد من الاضطرار، لتنقية الرجيع، للتطهر به، وشربه، ولا عبرة بتسويغه في البلاد الكافرة، لفساد طبائعهم بالكفر,

وهناك البديل، بتنقية مياه البحار، وتغطية أكبر قدر ممكن من التكاليف، وذلك بزيادة سعر الاستهلاك للماء، بما لا ضرر فيه، وينتج إعمال قاعدة الشريعة في النهي عن الإسراف في الماء. والله أعلم.

 

المطلب الثاني: مناقشة الفتاوي: لما كان المسلمون معنيين علي شكل فردي ــ لفساد طبائع غير المسلمين بالكفرــ  بالبحث عن قضية هذه المياه لذلك أعطتها المجامع الفقهية بعض العناية وأصدرت فيها ما لايحصي من الفتاوي المتواطئة علي اعتبارها صالحة للعادة والعبادة بمعني أنها طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها، وقل من أفتي بمنع استعمالها عادة أو عبادة وكان على رأس المانعين الدكتور بكر أبوزيد عضو المجمع الفقه الإسلامي، التابع لرابطة العالم الإسلامي منطلقا من قيم ديننا الإسلامي الحنيف الذي جاء ليطهر البشرية عامة من الأرجاس والأقذار البدنية والباطنية، لما يتضمنه استعمال تلك المياه من المنافات لأخلاق شريعتنا الطيبة السمحاء معارضة ظواهر الآيات (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) (ليطهركم به)(ويحرم عليهم الخبائث ) (وثيابك فطهر والرجز فاهجر) ولايكابر أحد في كونها من الخبائث  ، وكذلك الحديث الشريف (إن الله طيب لايقبل إلا طيبا ).  

وكما رأينا ضمن نص فتيا، الشيخ المتقدمة ، إلا أننا مازلنا في هذا الصدد يجدر بنا التنبيه إلي أن معظم الفتاوي القاضية بالجواز أغلبها يكاد يكون نسخة طبق الأصل الحائزِالسبق في ذلك المنوال، تصويرا وتكييفا، وتأصيلا واستدلالا ، لاسيما إذا تعلق الأمر باستثناء استعمال هذه المياه في الشرب عند تطرق الاحتمال إليها بحدوث أضرار منافية للصحة ،

ومن هنا سنبين في بعض الملاحظات الدقيقة والاعتراضات الواردة مما أجمل في تلك الفتاوى ومستنداتها على غرار النهج القويم الذي سار عليه الدكتور بكر أبو زيد ، 

الملاحظة الأولي: أن ماقرروه من أن الماء الكثير يطهر بتلك المسائل التي ذكروا ليس مسلما علي إطلاقه للخلاف المعروف في هل يتعين الماء لإزالة حكم النجاسة أم لا؟

الجواب: اختلف العلماء في هذه المسألة علي قولين أساسيين:

 أولا: أن الماء يتعين لإزالة حكم النجاسة: فلا يصح إزالة النجاسة بمزيل آخر غير الماء، وهذا القول هو المشهور من مذهب الحنابلة ، ومذهب الشافعية  وهو مذهب المالكية  ، واستدلوا : بقوله تعالي:(وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) .

وقوله تعالي :(وأنزلنا من السماء ماء طهورا).

وقال ابن رشد: فإن المسلمين اتفقوا  على أن الماء الطاهر المطهر يزيلها يعني النجاسة...ثم قال: واختلفوا فيما سوى ذلك من المائعات والجامدات التي تزيلها.

  وقال قوم: لا تزال النجاسة بما سوى الماء إلا في الاستجمار فقط المتفق عليه، وبه قال مالك والشافعي.

ثانيا:أن النجاسة لايتعين الماء لزوال حكمها: لأنها يمكن أن تحصل بمطهرات أخري فكما أنها تحصل بالماء، يمكن كذلك حصولها بالشمس وبالريح وبأي مزيل كان، وهذا هو مذهب الحنفية وأبي يوسف   وقول عند الشافعي ومنسوب إلي المالكية، فذهب قوم: إلى أن ما كان طاهرا يزيل عين النجاسة مائعا كان أو جامدا في أي موضع كانت، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه  ، وقول عند المالكية والشافعية، والذي يترجح هو القول الأول وهو الذي عليه الجمهور من العلماء.

ولما كانت تلك المطهرات التي ذكروا ليس متفقا عليه منها سوي التطهير بصب الماء كان ذلك معدوما حسا، والمعدوم حسا كالمعدوم شرعا، لأنه لا يتأتي عقلا وجود كم من الماء يمكن من القضاء علي النجاسات العالقة بهذه المياه ، ولو افترضنا وجودها لكانت دعواهم لشح المياه وقلتها افتراءً.

الملاحظة الثانية: زعمهم أنها مياه كثيرة بلاشك معناه : أن مياه الصرف تخلط بمياه أكثر منها تتحلل فيها  فتؤول إلي الطهارة وإذا صح هذا الخلط أفلا نستغني بالماء الكثير الطهور عن الماء القليل القذر، مع كون ذلك غير مستساغ عقلا.

الملاحظة الثالثة : وتتألف من شقين: 

أحدهما: أن توصياتهم بترك هذه المياه تفاديا، للضرر واحتياطا للصحة، اعتراف منهم ضمني بعدم صلاحيتها ، لأنه لوكان في الإستعمال كالماء الأصلي المطلق، لما احتاجوا للتنبيه إلي ذلك الشرط.

   ثانيهما: أن احتمالهم لهذا الضررمن أقل مايقال فيه أنه يوهم الشك في عدم رجوعه للأصل مع كون نجاسته متيقنة ، واليقين لايزول بالشك ،

إضافة إلي كونه لايرقي لدرجة المشكوك فيه ولا يتصور ذلك علي الإطلاق،بل مجرد افتراض وتسليم جدلي.

 الملاحظة الرابعة:أنه: مما يبعث الريبة في الأهلية لدي المفتين بجواز استعمالها كثرة إيصائهم بالإحتياط في الجانب الصحي فقط مهملين الجانب الطهوري وليتهم عكسوا الصورة فالعكس إذن صحيح، لأنه إذا كان لا يؤمن ضرره علي الصحة فمن باب أولي الطهورية لأنها أخص.

 فإذا قال قائل :أن منعها لخوف الضرر، لا يؤثر في الحكم : لأن النهي ليس راجعا إلى نفس المنهي عنه بل لأمر خارج وهو الضرر ومعلوم أن الأمر الخارج لا يقتضي الفساد على الصحيح عند الأصوليين ، لكون كراهة التنزيه لاتمنع الحكم.

 فالجواب من وجهين :

أولهما: أن هذا خطأ لأن الكراهة نهي مانع من الصحة سواء كان النهي تحريما أو تنزيها.

ثانيهما: أن هذه المياه لاتخرج عن ثلاث حالات :

الجواز أو المنع أوهما معا:

الحالة الأولي :الجواز: فإن قلنا بجوازها انتفي ذلك الحكم لإنشاء الضررعنها لأن كل ما فيه ضررممنوع  لقوله صلي الله عليه وسلم : (لاضرر ولا ضرار )القاعدةِ المعروفة  قال: سيدي عبدلله :وأصل كل ما يضر المنع ... .

الحالة الثانية:الجواز والمنع معا: وإن قلنا بجوازها من ناحية صلاحها للإستعمال، ومنعها في نفس الوقت احتياطا للضرر المتوقع فهنا تساوت المصلحة والمفسدة، وإن استوتا في أمر أوعظمت المفسدة منع،لأن درء المفاسد أولي من جلب المصالح .

الحالة الثالثة: المنع : وهو المتحقق فيها لما تقدم ولأمرين:

الأمرالأول:أنه إذا كان احتمال الضرر المانع من شرب هذه المياه ناشئا عن مجرد التلوث البيئي، فأي فرق بين الضرر المحتمل في شربه والمحتمل في استعماله لإطباق الأطباء المعاصرين علي ضرر استعمال الماء المتلوث. 

الأمرالثاني: أنه مما تعافه النفوس وكل ماتعافه النفوس ولو كان طاهرا مضر بالبدن كما يقول الأطباء التقليديون.

الملاحظة الخامسة: أنه لم يقف الأمر عند حد لانصياع لأقوال الخبراء بل وصل الأمر إلي إطرائهم  وذلك في العبارة  (ممن لايتطرق الشك إليهم...) مع أن العلماء الأجلاء مهما كانوا مصدقون في نقولهم مبحوث معهم فيما فهموا ، وكتتمة لهذه الملاحظة نرى أن المجامع الفقهية لم يسموا لنا هؤلاء العدول ربما اتكالا علي معرفتهم بهم وذلك لايكفي ،وإن كانوا مؤتمنين من حيث الأصل. 

الملاحظة السادسة: الدعاؤهم أن بعض دول العالم تعاني من الفقر في الماء ولو كانت قضية الفقر في الماء الشروب صحيحة لاعتيض من هذه المياه تصفية مياه البحارلقوله صلي الله عليه وسلم :(هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) وقوله عليه السلام:( من لم يطهره ماء البحر فلا طهره الله) بالنسبة للشرب لأنه الأيسر، أو تعليبها بحالها بالنسبة للطهارة لأنه لايستدعي أي كلفة عدي أوعية التعليب التي يباع فيها( الكلفة التي لامهرب منها).

    وإذا تقرر هذا فما الفائدة من التشبث بهذه المياه القذرة وكأنها تعينت مع أنه قلب للحقيقة ؟؟

 فكما تحل المشكلة بماء البحر تحل بماء الثلج، لقوله - عليه السلام - «اللهم طهرني بالثلج والبرد » .

وقد يقول قائل: أنه قد تتعين هذه المياه في مكان بثمن أيسر أفلا نأخذه تيسيرا من الشرع؟

فالجواب :أن هذا كلام مغالط  لأن الشرع أعط البديل وهو التيمم بنص القرآن العظيم (فتيمموا صعيدا طيبا) ولقوله: ـ صلى الله عليه وسلم - «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»  . وقد يتوهم متوهم أن [وطهورا]إنما تفيد صلاحية الأرض للصلاة دون التيمم , 

فالجواب أن مسجدا تؤدي ذلك بدلالتين: 

الأولي: أنها اسم مكان منطبق علي أي جزء من الأرض (عدى الأمكنة الممنوعة لعارض)،

الثانية:أن المسجد يستلزم الطهارة إذ لايتصور مسجد دونها، فتعين حينئذ حمل وطهوراعلي التيمم انسجاما مع ماختم القرآن به حكم التيمم (مايريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ).

وقال : بن المنذر ـ رحمه الله تعالي ـ معلقا علي تلك الآية بقوله: افترض الله الطهارة بالماء، وفرض على من لا يجد الماء من المرضى والمسافرين التيمم بالصعيد فليس يجوز طهارة إلا بالماء أو الصعيد، إذا لم يجد الماء ،

وجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالدلالة على ذلك ، 

فما المانع منه إلا التشدد وعدم الإنصياع لأوامر الشرع إذ أن  أصل البدعة عدم الرضي بالقسمة الإلهية كمايعزى للشاطبي، فإن الشيطان كما يدعوك للتقصير يدعوك للغلو ولايرضي لك الوسط أبدا ولذلك قيل الحسنة بين السيئتين واعلم ـ هدانا الله  وإياك ـ أن دراسات العصر في أشد التناقض لأنها تعتبر الماء يشكل نسبة سبعين في المائة  من الأرض ومع ذلك تدعي قلته بشكل يستدعي تصفيته من القاذورات التي تنفر منها النفوس أشد نفور إلا نفس جعلية أوصرصورية .

 الملاحظة السابعة: إن المتأمل لهذه الفتاوي بنظرة مقاصدية سيدرك بجلاء نقطتين رئيسيتين:

النقطة الأولي: عدم مراعاة أصحابها لمدي الضرورة والحاجة إليها ونوضح  ذلك  من وجهين:

 أولا: لكون الإقرار بالضرورة إقرارا بالمنع لأن الضرورة إذا ثبتت في شيء ثبت منعه أصلا ، وصارت  إباحته طارئة بحكم العوارض مقصورة على  وقتها.   

ثانيا :أننا لوسلمنا جدلا بصحة الدعائهم أن ذلك تقتضيه الضرورة لكون بعض الدول بحاجة ماسة لتلك المياه لكان ينبغي أن يضعوا حدا لذلك و يبينوه طبقا لقاعدة: (الضرورة تقدر بقدرها ). 

النقطة الثانية: أنهم لم يراعوا مدي الضرر المتوقع فلو تنبهوا لذلك لمنعوها علي الإطلاق،لأنها إذا كان يمنع استعمالها خشية الضرر الباطني فكذلك من المناسب عقلا وشرعا منعها خوف الضرر اللاحق بالجسد استئناسا بقاعدة : (الضرر يزال ).

و نظرا لما قد تحمله من جراثيم ومواد كيميائية لايأمن الجسد ضررهما،إذ أن الخبراء مطبقون علي أن المواد الكيميائية إذا أضيفت لشيء يصعب تنقيته من مخلفاتها. 

  الملاحظة الثامنة: أننا لاحظنا على أغلب من كتب في هذا الموضوع أو تناوله عدم الموضوعية إذ نجدهم يذكرون آراء المجيزين ويسمونها فتاوى سواء في ذلك ماصدر من المجامع الفقهية أو من أفراد العلماء والدكاترة الباحثين, بينما نجد من تناول الطرف المانع ـ وإن كان قليلا ـ لايسمي أقوالهم فتاوى بل يسميها وجهات نظر،

ومعروف أنه مما لايستساغ التقليل من أهمية فتوي الفرد المخالف، إذ الصواب أن تُقيَّم إما أن يكون عدلا ثاقب الذهن ذا ملكة في الفتوى ــ لاسيما إذا كان من أمثال الدكتور بكر أبي زيد ــ وإما أن يكون حافظ نصوص فقط تفوت عليه مدارك الاشياء ودقائق الفروق، فكل من الصفتين يُنَزَّلُ منزلته.

وبعد هذه المناقشات والردود نلاحظ أن المجيزين لا ستعمال هذه المياه اعتمدوا على أقوال ضعيفة وحجج واهية لايصح لاستناد إليها في الأمور العادية ، أحري إذا كان الأمر يتعلق بالأحكام الشرعية، مما يؤيد ذلك القول بالمنع ويؤكده. كما نَلفِت أنظار القراء إلي أننا نمنع  استعمالها فيما يتعلق بالشرب والتطهير فقط ، وأما مايتعلق بالإنتفاع بها كسقي المزارع ونحوها لم أتعرض له نظرا لعدم إشكاله .

 

الخاتــــمـــــة: وأخيرا ننبه ـ القارئ الكريم ـ إلي أننا تناولنا معالجة هذه النازلة في مبحثين ، حيث تعرضنا في المبحث الأول ضمن أول مطلبيه لمفهوم المجاري والمراحل التي تمر عليها المياه أثناء المعالجة واحدة تلو الأخرى ، وذكرنا في المطلب الثاني من نفس المبحث الرأيين الواردين بالجواز والمنع في تلك المسألة ،وبينا الراجح منهما حسب الدليل.كما خصصنا المبحث الثاني لعرض فتاوى الرأيين ومناقشة ما يقتضي النقاش من أدلتهما جملة وتفصيلا ،ثم خرجنا في النهاية بأرجحية الرأي القاضي بمنع استعمال هذه المياه عادة أوعباة ، والله تعالي أعلم. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

    قائمة المصادر والمراجع:

1 ـ  فقه النوازل في العبادات القسم الأول من إلقاء خالد بن علي المشيقح.

2 ـ  الموسوعة الميسرة في فقه القضايا الماصرة قسم القضايا المعاصرة في العبادات،إعداد مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة 1430 ه الموافق 2014ه الطبعة الأولي .

3 ـ  بحث بعنوان المياه المعالجة وحكمها في الفقه الإسلامي للدكتور أسامة علي الفقير الربابعة .

4ـ  الهندسة الصحية لمياه المجاري لسلوي حجار مديرية الكتب والمطبوعا ت 981م .

5 ـ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير،الناشر: دار الفكر الطبعة: بدون طبعة وبدون تاريخ عدد الأجزاء:4، .

6 ــ الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف : لعلاء الدين، الناشر: دار إحياء التراث العربي الطبعة: الثانية - بدون تاريخ عدد الأجزاء: 12.

7 ـ الصنائع في ترتيب الشرائع:لعلاء الدين الكاساني،الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الثانية، 1406هـ - 1986م عدد الأجزاء: 7. 

8 ـ  المحلي بالأثارلابن حزم الناشر: دار الفكر – بيروت الطبعة: بدون طبعة وبدون تاريخ عدد الأجزاء: 12.

9 ـ  إعلام الموقعين لابن القيم تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم الناشر: دار الكتب العلمية – ييروت الطبعة: الأولى، 1411هـ - 1991م عدد الأجزاء:4 .

10 ــ  مجموع الفتاوي لابن تيمية المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية عام النشر: 1416هـ/1995م .

 

11 ـ   البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم وفي آخره: تكملة البحر الرائق وبالحاشية: منحة الخالق لابن عابدين الناشر: دار الكتاب الإسلامي الطبعة: الثانية - بدون تاريخ عدد الأجزاء:8.

 

12ـ  رد المحتار علي الدر المختار الناشر: دار الفكر-بيروتالطبعة: الثانية، 1412هـ - 1992معدد الأجزاء: 6.

 

13 ـ مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج  للشربيني ،الناشر: دار الكتب العلميةالطبعة: الأولى، 1415هـ - 1994م عدد الأجزاء: 6.

 

14 ـ  المغني لابن قدامة ،الناشر: مكتبة القاهرةالطبعة: بدون طبعة عدد الأجزاء: 10.

 

15 ـ فتح القديرلابن الهمام الناشر: دار الفكر الطبعة: بدون طبعة وبدون تاريخ عدد الأجزاء:10.

 

16ـ المجموع شرح المهذب للنووي الناشر: دار الفكر(طبعة كاملة معها تكملة السبكي والمطيعي).

 

17ـ  فقه النوازل دراسة تأصيلية تطبيقية تأليف محمد بن حسين الجيزاني  دار ابن الجوزي.

 

18 ـ  المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلف: مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ)المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي الناشر: دار إحياء   العربي – بيروت عدد الأجزاء: 5.

 

19ـ  بداية المجتهدلابن رشد،الناشر: دار الحديث – القاهرة الطبعة: بدون طبعة تاريخ النشر: 1425هـ - 2004 م عدد الأجزاء: 4.

 

20 ـ  شرح القواعد الفقهية،صححه وعلق عليه: مصطفى أحمد الزرقا الناشر: دار القلم - دمشق / سوريا الطبعة: الثانية، 1409هـ - 1989م عدد الأجزاء:1 .

21 ــ  موطأ مالك تحقيق محمد مصطفى الأعظمي الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية - أبو ظبي – الإمارات الطبعة: الأولى، 1425 هـ - 2004 م عدد الأجزاء: 8 (منهم مجلد للمقدمة، و 3 للفهارس).

22 ــ  نثر الورود علي مراقي السعود شرح الشيخ محمد الامين بن محمد المختار الشنقيطي " صاحب أضواء البيان" تحقيق وإكمال تلميذه الدكتور محمد ولد سيدي ولد احبيب الشنقيطي ،ج1 الناشر: محمد محمود الخضر القاضي ،توزيع دار المنارة للنشر والتوزيع.

23ــ  مسند الإمام أحمد المحقق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي،الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م.

 

24 ــ  الأوسط لابن المنذر، تحقيق: أبو حماد صغير أحمد بن محمد حنيف الناشر: دار طيبة - الرياض – السعودية الطبعة: الأولى - 1405 هـ، 1985 م عدد الأجزاء: طبع منه المجلدات: 1، 2، 3، 4، 5، 11 فقط .

 

25 ــ المقدمات في الجغرافيا الطبيعية المؤلف: دكتور عبد العزيز طريح شرف الناشر: مركز الأسكندرية للكتابعدد الأجزاء: 1.

26 ــ  بحث استحالة الاشياء في ميزان الفقه الإسلامي ، للدكتور رمضان حمدون علي.

جديد الأخبار