ظاهرة الانتحار بالمغرب .. موت "خارج القدَر" وعار يلطخ البشر

جمعة, 27/10/2017 - 20:10

كل يوم يستيقظ يحيى، الشاب الذي لم يتجاوز عمره التاسعة عشرة بعد، وكل ما يجول في خاطره هو محاولة الموت، لا آمال له ولا أحلام لا طموحات ولا جدوى من انتظار الغد؛ هكذا هي نظرته لحياة يحاول بين فينة وأخرى أن يضع حدا لها.

بصوت مرتجف ووجه لازال يحمل جزءا من براءة الطفولة يقول: "ثماني مرات وأنا أحاول الانتحار، مرة استعملت منومات وأطلقت الغاز بالبيت وأغلقت النوافذ..أحاول مرات أخرى أن أجرح يدي. مرة حاولت أن أقفز من السطح وخفت ثم تشجعت وقمت بالقفز من الطابق الثاني..أمي رأتني ملقى على الأرض فبدأت بالبكاء؛ فيما والدي وقف جانبا وبدأ بالنظر إلي".

يحيى ليس الوحيد الذي يفكر مليا في الانتحار، بل الأمر بات ظاهرة خطيرة تهدد المجتمع؛ ففي وقت يفكر الشاب المنحدر من عاصمة المملكة في وضع نهاية لحياته، تنتشر أخبار انتحار شباب وأطفال وأيضا كهول في كل المدن وبمختلف الجهات.

 

في شمال المملكة، وبالضبط بإقليم باب برد، التقينا عبد الله محمد احساين الدريع، الشيخ الذي بين ليلة وضحاها فقد ابنه رضا، وهو شاب لم يتجاوز عمره الثانية والعشرين، ارتأى تسريع قدره وإنهاء حياته فشنق نفسه وسط بيته.

يقول الدريع: "كنت في زيارة لابنتي، وكانت زوجتي مسافرة لحضور عرس أخيها، وظل هو وأخوه في المنزل..الأخ ذهب صباح ذلك اليوم إلى عمله؛ فيما ظل هو بالبيت مستلقيا على الأريكة..عدت في اليوم نفسه حوالي الساعة الثانية..حاولت أن أفتح الباب لكنني لم أتمكن من ذلك..

وتابع "قمت بالمناداة عليه من نافذة البيت لكنه لم يجبني، فأتيت بحجر وكسرت النافذة ونظرت من خلالها فلم أجده بالغرفة..استغربت حينها ولم أعلم أين ذهب، خاصة أنني مررت على أخيه ووجدته في المحل الذي يشتغل به، في حين أنه لا أثر له..ذهبت إلى المقهى لأبحث عنه لكنني لم أجده، وعدت إلى البيت وقمت بكسر القفل لأجده معلقا بواسطة حبل، فقلت لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون".

يقول عبد العزيز الدريع، قريب رضا، إن الأخير كان شخصا عاديا، لكنه كان كتوما لا يتحدث، مضيفا: "لم تكن له أي إشكالات في البيت..لم ينتحر هو فقط، بل الإقليم يشهد عمليات انتحار كثيرة ولأسباب مختلفة، منها البطالة وغياب نواد للتكوين..لا وجود لأي متنفس للشباب".

 

وإن كان رضا قد انتحر بعد أن ضاقت به السبل ولم يجد متنفسا، فالوضع مختلف بالنسبة ليحيى، الشاب الذي يهوى الرسم والعزف على القيثارة، وأيضا المطالعة؛ ناهيك عن تفوقه الدراسي وارتياده واحدة من أكبر جامعات العاصمة المغربية.

يقول يحيى، في حديث مع هسبريس: "كل هذا بدأ حينما كنت في السنة الثانية ثانوي..كنت أرى كل شاب يجد مجموعة ينتمي إليها، منهم من يحب كرة القدم أو الغناء، وأنا لم أنتم إلى أي مجموعة..لا أتفاهم مع أي أحد، مرت السنوات حتى وصولي إلى الكلية وأنا أعيش لوحدي".

وزاد: "قمت بتجريب كل شيء، أن أرسم وأعزف على القيثارة، وأن أشاهد التلفاز وأحاول الكلام مع الناس في الشارع، لكن كل هذا لا يأتي بنفع، فحال عودتي إلى البيت يبدو لي أن شيئا لم يقع".

غياب أرقام رسمية

الانتحار كلمة تحمل ثقلا صامتا، وبما أنها من الطابوهات ستظل تحصد مزيدا من الأرواح في غياب أي رؤية للحد من الظاهرة والقضاء على مسبباتها؛ فحسب منظمة الصحة العالمية ينتحر كل سنة ثمانمائة ألف شخص، وتسجل كل أربعين ثانية عملية انتحار، خاصة في صفوف الشباب. ويصنف المغرب كثاني بلد عربي تسجل فيه أكبر معدلات الانتحار، التي تقدرها أرقام المنظمة العالمية بـ5.3 حالات لكل مائة ألف نسمة.

حاولنا الحصول على معطيات رسمية تبرز الوضع بالبلاد إلا أن جميع الوزارات المعنية نفت أنها تتوفر على أرقام، سواء تعلق الأمر بوزارة الصحة أو الداخلية أو حتى العدل؛ وفي المقابل يقر الأطباء النفسيون بهول الأرقام واستفحال الظاهرة.

وفي هذا الإطار يصف الوضع جواد مبروكي، الطبيب والمحلل النفسي، بـ"الكارثي"، ويؤكد أن ما يزيد استفحاله هو "احتقار المجتمع للانتحار وعدم أخذ الموضوع على محمل الجد، سواء من قبل المجتمع أو بالمستشفيات"، مضيفا: "العائلة لا تأخذ موضوع الانتحار بشكل جدي، وتحاول علاجه بطرق غير طبية وبدون استشارة الطبيب، في حين تتعدد أسبابه، فمنها الاكتئاب وعدد من الأمراض النفسية...".

 

حالات متعددة لأسر فقدت أحد أفرادها التقينا بها فكانت أغلب القصص تتشابه، كقصة شاب منحدر من إقليم شفشاون، يروي خالد أحيتاف قصة انتحاره لهسبريس قائلا: "أمضيت معه طفولتي..كان شخصا عاديا يحب أن يضحك وأن يلعب كرة القدم وكل ما يقوم به الشباب..منذ أن بلغ سن 22 سنة بدأ يتغير وأصبح يحب أن يجلس لوحده..لا يحب أن يذهب للبيت.. بدأ يتشاجر مع إخوانه وأمه، وكان يذهب للقاء أصدقائه وفجأة بدؤوا ينفرون منه، فأحس بأن المجتمع رفضه فوضع حد لحياته بعد أن توجه إلى غابة تبعد عن بيته بحوالي خمس كيلومترات".

ويقول ميلود فردوس، الفاعل الجمعوي بإقليم شفشاون، إن المنطقة عرفت أخيرا انتشار ظاهرة الانتحار بشكل كبير، وزاد: "لا يمر أسبوع حتى نسمع حالة انتحار في مختلف المناطق..بداية كان يتم الانتحار عن طريق تناول مبيد الفئران، والآن بدأنا نسمع بطريقة أخرى تتعلق بالشنق عن طريق تثبيت حبل على شجرة..هناك أيضا تفاوت في العمر، فهناك أطفال يبلغون 12 سنة انتحروا وآخرون 18 سنة، بالإضافة إلى شيوخ يبلغون ستين سنة...".

مجتمع لا يتقبل المرض النفسي

يظل الانتحار من الطابوهات التي يستعصي على المجتمع الحديث عنها، كما تعجز فئات مختلفة عن فهم أسبابه المرتبطة بالمرض النفسي أو العقلي؛ فيجد الشخص المريض نفسه وحيدا في مواجهة أمر لا يفهمه، ما قد يؤدي به إلى وضع نهاية لحياته.

يقول يحيى في حديث مع هسبريس: "كنت أخبر والدي بأنني أعاني من مشكل ولا أستطيع التفاهم مع أي كان، وبأنني أعاني من الاكتئاب؛ لكنهما لا يفقهان شيئا اسمه المرض النفسي..كل ما يطلبانه هو أن أقرأ القرآن وأصلي لأصير بخير"، وزاد: "أحسست يوما بأن من الضروري أن أزور طبيبا نفسيا وأن الأمر بات مستعجلا، فأخبرت والدتي فذهبت بي إلى "فقيه" وأتت لي بورقة بها سحر وطلبت مني أن أضعها في إناء وأن أغتسل بها".

 

ويردف المتحدث بصوت مخنوق وأعين تحمل نظرة طفولية: "أمضي يومي بشكل عادي، وحال دخولي إلى المنزل يتغير كل شيء. في بعض الأحيان أحس بأني وصلت إلى أقصى حد فأحاول جرح يدي حتى أركز على الألم الجسدي عوض النفسي؛ فيما أحاول أحيانا أخرى الانتحار، لكنني أفشل".

الخطير في ظاهرة الانتحار أن الشخص قد لا يبدي أي رغبة في الموت إلى أن يحقق مراده الخفي في يوم من الأيام؛ ناهيك أن الظاهرة بدأت تمس جميع فئات المجتمع وبمختلف شرائحه. وفي هذا الإطار يقول مبروكي إن هناك نوعين من الانتحار، وإن أكثرهما خطرا حينما لا يضع الشخص أي خطة للانتحار حتى تجتمع لديه عدد من العوامل التي تدفعه للقيام بالعملية دون تردد، "فتكون العملية ناجحة مائة بالمائة"، على حد قوله؛ فيما ثاني الحالات التي ذكرها تتعلق بالأشخاص الذين يعيشون حالة اكتئاب ولا يتحدثون عن الموت، "إلا أنهم يكونون في طور التخطيط للقيام بالعملية".

آباء في حيرة

حتى بعد حدوثه يبقى الانتحار من بين الأمور الغامضة للآباء الذين لا يجدون له تفسيرا مهما طالت السنين؛ تجدهم يلقون اللوم على أنفسهم تارة وعلى المجتمع أحيانا أخرى.. يقول الدريع، والد رضا: "أرى أن الشباب الذين ينتحرون يفكرون في تحقيق الكثير من الطموحات لكنهم لا يتمكنون من ذلك لأن آباءهم لا يملكون مالا".

الرغبة في القضاء على الألم المعنوي وتجاوز معيقات الحياة، وأحيانا حماية الآخرين مما يعتبرونه ثقلا وتغيير الأوضاع هي بعض الأفكار التي تسيطر على المقبلين على الانتحار. يقول يحيى: "الروتين نفسه أمارسه يوميا، أستيقظ، أذهب إلى الجامعة، ثم أعود فأقول ربما هناك شيء سيتغير إن مت..أحاول فقط أن أنام لأنه كلما نمت أقتل اليوم ليأتي اليوم الثاني، وهكذا إلى أن تقع معجزة ما..أحب أن يكون هناك ما يحمسني للاستيقاظ في الغد لكن دائما لا أرغب في الاستيقاظ أبدا".

 

يتذكر الدريع بعض خصال ابنه وكيف كان يعامله، يغالب دموعه ويروي بعض من فصول القصة قائلا عن من غاب عن هذه الدنيا: "كان يتصرف معنا بشكل جيد، يقوم بكل ما نطلبه منه ويشتغل ليأتي بمصروفه اليومي..

واسترسل "كل ما نطلبه منه هو أنه يشتغل ليأتي بمصروفه اليومي وليستطيع دفع ثمن سجائره وأيضا ما يرغب فيه.. كنت أخبره بأنني سأتكفل بما يهم متطلبات البيت وكل ما عليه القيام به هو الاشتغال ليستطيع الزواج وفتح بيت..كل ما كان يقوم به هو الاستماع فقط دون أن يبدي أي ردة فعل".

الأب الذي لازالت الحيرة تراوده عن الأسباب التي دفعت ابنه إلى التعجيل بقدره وقطع خط حياته بتلك الطريقة يقول والحيرة بادية على ملامحه وأيضا كثير من الحزن: "لا أعلم هل كان مريضا نفسيا، إذ كان لا يتحدث عما يجول بخاطره سواء لي أو لأصدقائه أو لأمه..كل ما كان يقوم به هو اللعب على الهاتف، إن تحدثت إليه يجيبك وإن أعجبه شيء يضحك فقط..لا شيء غير ذلك..كان شخصا طيبا يتحدث عنه الجميع بالخير ويبتعد عن جميع أنواع المشاكل".

دق ناقوس الخطر

يرى أطباء النفس أنه لا يجب الاستهتار بما يحس به الآخرون أبدا؛ فحال انطلاق الإنسان في التفكير بأنه لم يعد هناك سبب ليحيى من أجله، أو أن يتمنى الموت، فعليه زيارة الطبيب مباشرة.

ويقول مبروكي: "الانتحار نتيجة للمرض النفسي، وهو تغيرات بيولوجية تقع في دماغ الإنسان فتجعله يرى أن الانتحار هو الحل؛ وبالتالي لا يجب أن نستهزئ بالإنسان الذي يشعر بالحزن أو من تكون له أفكار سوداوية، بل يجب عرضه على الطبيب بسرعة".

وزاد: "حينما نرى أن إنسانا يتعذب لا يجب تبسيط الأمور أو نصحه بالسفر أو قراءة القرآن أو اللجوء إلى الرقية، بل تجب زيارة الطبيب في أسرع وقت ممكن".

هسبريس - أمال كنين

 

جديد الأخبار