غزة تصبح مركز الكون

جمعة, 21/05/2021 - 20:10

احتفلت صواريخ المقاومة في غزة بالذكرى الثالثة والسبعين للنكبة على طريقتها هذا العام. أعادت السردية الفلسطينية إلى جذورها الحقيقية، القائمة على شعب طرد عنوة من وطنه، وما زال يناضل لاسترجاعه بكل الوسائل. صواريخ المقاومة أدخلت مغتصبي الأرض إلى جحورهم وهم مصابون بالذعر والهلع. من المؤكد أنهم تذكروا ما فعلوه في الشعب الفلسطيني، الذي تمنوا لو يختفي من على وجه الأرض، لكنه دائما بعد كل كبوة يعود وينهض من الرماد كالعنقاء، ينفض الغبار عنه ويمتشق السيف وينزل الميدان مرة أخرى. المقاومة أحرجت الأوسلويين والمطبعين والمهرولين والمعجبين بالكيان الصهيوني، والواقفين في الطابور بانتظار دورهم للدخول في حظيرة التطبيع.
التاريخ الآن يكتب من جديد، الصراع يعاد إلى جوهره بين كيان استعماري استيطاني إحلالي، والشعوب العربية قاطبة ورأس حربتها الشعب الفلسطيني. ولنراجع معا بعض النقاط الأساسية التي أفرزتها هذه الهجمة الأبشع ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة.

غزة ـ الوطن ـ الكون

أعظم إنجازات هذه الهبة العظيمة أنها أعادت القضية إلى مركز اهتمام الكون، وأصبحت القدس وغزة والشيخ جراح مركز صنع الأخبار العالمية، لا يعلو فوق صوت فلسطين شيء. صدى صمودها تردد في العالم أجمع، من ساوباولو إلى سدني ومن كيبتاون إلى تورنتو، ومن الرباط إلى الكويت. مجلس الأمن منشغل بغزة، والجمعية العامة تجتمع لغزة، والاتحاد الأوروبي يلتقي لبحث معجزة غزة. الأسئلة في المؤتمرات الصحافية في الخارجية الأمريكية والأمم المتحدة تتمحور حول غزة. غزة أصبحت كلمة السر التي يتناقلها شرفاء العالم انتصارا للحق. غزة رفع اسمها على ملايين اليافطات في العالم، وهـُتف باسمها بكل اللغات ونقلت صور ضحاياها بكل وسائل التواصل. لا حديث للناس إلا غزة، لأنها صامدة ولأنها تدفع ضريبة الدم عن كل الأمة العربية، وتثبت أن الانتصار للحق والكرامة والشرف ليس بعدد السكان ولا بالميزانيات الضخمة، ولا بالجيوش الجراراة ولا بأسراب الطيران، ولا ببطاريات الباتريوت، بل بالإرادة الصلبة والعقيدة الراسخة، والتصميم اللامحدود والإبداع. غزة أصبحت منذ العاشر من أيار/مايو عاصمة للكون، خطفت كل الأضواء. تراجعت أخبار الكوفيد – 19 والروهينغا وهونغ كونغ وأوكرانيا والناتو وشرق المتوسط وليبيا واليمن وقبرص ومالي والكونغو. غزة أصبحت مصدر إشعاع ينير الطرق المظلمة في عواصم الشر، يداً مباركة تزيح الأقنعة عن المنافقين والمطبعين والمتخاذلين.

إعادة الالتفاف حول المقاومة

من غير العدل أن نقارن بين قوة حركات المقاومة، وما يملكه الكيان الصهيوني من ترسانة أسلحة بجميع أنواعها من طائرات أف-16 إلى الزوارق الحربية، فالمدفعية والصواريخ والقذائف، ناهيك من القدرات التكنولوجية والاستخباراتية، وما تضعه الولايات المتحدة بين أيديهم من إمكانيات. لكن الفرق بين الطرفين هو مخزون الإيمان العميق لدى الشعب الفلسطيني، بعدالة قضيته وحبه اللامحدود لوطنه، أرض آبائه وأجداده منذ آلاف السنين، وقبل تجميع هؤلاء المستعمرين المستوطنين من كل بقاع الأرض، لتنفيذ مشروع استعماري للسيطرة على المنطقة، خاصة قناة السويس الاستراتيجية وفصل الشرق العربي عن المغرب العربي. قوات المقاومة في أقل من سبع سنوات منذ حرب 2014، أعدت لهذا اليوم. كانت تعرف أن المواجهة ستأتي. جهزوا أنفسهم، وطورا أسلحتهم، وحصنوا أنفاقهم، وطوروا تكنولوجيا الطائرات المسيرة، وشكلوا غرفة عمليات مشتركة، كي لا يقع أي خطأ عملياتي. فوجئت إسرائيل بهذه القوة، فوجئ العالم كله، وفوجئوا كذلك بصدقية المسؤولين. سنضرب معناها سنضرب، إن ضربتم الأبراج سنضرب الأبراج، إن استهدفتهم المدنيين سنرد بالمثل.. إنه توازن الرعب في أنصع صوره. الشعب الفلسطيني بكامله وفي أماكن وجود كافة التف حول المقاومة. لا صوت الآن يعلو فوق صوت المقاومة. قد تتوقف العمليات في الأيام القليلة المقبلة. لكن إسرائيل لن تعود كالطاووس بانتصار عارم وستضطر أن تقبل خيبتها وفشلها في هزيمة المقاومة. مضى الزمن الذي يكون فيه الاحتلال والحصار والتمييز والقتل مشروعا رابحا ينفذه طرف واحد فحسب. لقد ضربت نظرية الأمن الإسرائيلي في العمق، وتمكنت فصائل المقاومة من أن تمطر البلدات والمدن والتجمعات الإسرائيلية بوابل من الصواريخ، وضعت الكيان برمته في مهب الريح، ولم تنفعهم لا استخبارات ولا جيش ولا جواسيس ولا قبة حديدية. صحيح أن الكيان الصهيوني أوغل في الدم الفلسطيني، ولكن هذه المرة لم تمر جرائمه بدون عقاب. هذه هي المرة الأولى التي فوجئ الكيان الصهيوني بحجم الرد. تعود أن يقتل وينسحب بسلام. تغيرت المعادلة السابقة واستبدلت بمعاهدة جديدة وجادة «إن عدتم عدنا وإن زدتم زدنا».

تعود الكيان الصهيوني أن يقتل وينسحب بسلام، تغيرت المعادلة واستبدلت بمعاهدة جديدة وجادة «إن عدتم عدنا وإن زدتم زدنا»

الوحدة الوطنية

إنجازات كبرى تحققت لغاية الآن نذكر منها، وحدة الشعب الفلسطيني في فلسطين من بحرها لنهرها، ومن الناقورة حتى رفح خلف المقاومة. الانقسام الذي استمر لأكثر من 13 سنة بين الضفة وغزة تلاشى في ساعات عندما انتفضت الضفة لمعاناة غزة، وقامت تتحمل مسؤوليتها في هذا الصراع الشامل مع هذا العدو المتغطرس. هذه الوحدة التي عجز عنها، أو تعمد أن يعجز عنها، السياسيون، أنجزها المقاومون خلال أيام. أوسلو قسمت الشعب الفلسطيني إلى أقسام تخلت عن ثلثيه، ولم تشمل اتفاقاتهم إلا سكان الضفة وغزة. هذه المواجهات الشاملة عادت وأكدت على وحدة الشعب الفلسطيني في كل مكان. لقد أثبت الفلسطينيون داخل فلسطين المحتلة، أنهم جزء أصيل من هذا الشعب، بل أكثرهم معرفة بهذا العدو وقدرة على إلحاق الأذى به لما يختزنونه من معاناة واضطهاد وعنصرية وتهميش على مدى 73 عاما، إضافة إلى هذا فإن الشعب الفلسطيني في دول اللجوء والشتات التف فورا حول المقاومة، ووقف مع شعبه في الداخل في كل أماكن انتشاره في هذا الكون. ومن بين إنجازات هذه الهبة المباركة تهميش قيادة أوسلو وجماعة «الحياة مفاوضات» والتنسيق الأمني المقدس. لا أحد يوليهم اهتماما، والحديث الآن عن التهدئة، أو الاستمرار في المقاومة مسألة ليس لقيادة أوسلو دخل فيها.

صدمة نتنياهو في انتفاضة العرب في الداخل

الصدمة القوية التي تلقاها الكيان الصهيوني، وحكومة المتطرفين تجلت في هبة الشعب الفلسطيني في الداخل، في كل قرية ومدينة وحيّ من أحياء المدن المختلطة. لقد خلخلت هذه الانتفاضة العارمة الكيان الصهيوني من جذورة غير العميقة، حتى أصبح كأنه الشجرة التي تتعرض لرياح عاتية، تميل بها شمالا وجنوبا، وعلى وشك اقتلاعها والتطويح بها في العراء. ما كان نتنياهو يتوقع يوما أن يواجه الفلسطينيين في الداخل، لدرجة أنه قرر أن يستدعي الجيش. تمنينا لو أنه فعل، لكن جماعته نبهوه إلى حماقته. فدخول الجيش يعني إعادة احتلال المدن، كما فعل شارون عام 2002 في مدن الضفة الغربية. إذن هي مدن فلسطينية ينتفض أهلها ضد المستعمر المستوطن، ولا قوة توقف انتفاضتهم إلا الجيش. الانتفاضة عمت معظم المدن والقرى العربية والمختلطة. لقد جاءت هذه الهبة الشاملة ليس فقط انتصارا للقدس والمسجد الأقصى، بل فرصة للتعبير عن التهميش والاضطهاد والقهر، ومصادرة الأراضي وهدم البيوت التي تعرضوا لها منذ 73 سنة. إنها حقيقة معدن الشعب الفلسطيني الصلب الذي لم ينصهر ولا يهزم.

أين المطبعون؟

من أعظم إنجاز هذه المواجهات الجارية حاليا بين الكيان الصهيوني وحركات المقاومة، هو إحراج الدول المطبعة مع الكيان الصهيوني حديثا. لقد انقلب السحر على الساحر. لقد عقد بعضهم صفقات تجارية، أو استثمر أموالا هائلة في الكيان وكان يعتقد أن القضية الفلسطينية همشت وشطبت، ولم تعد تمثل قوة ضغط أخلاقية وقانونية وشعبية، لكنهم فوجئوا بمخزون النضال العالي الذي يمتلكه هذا الشعب المناضل، حيث استطاع في عدة أيام أن يقلب موازين القوى وأن يعيد القضية الفلسطينية إلى مركز اهتمام الأمة العربية وشعوبها الحيّة. أولئك الذين راهنوا على ترامب وصفقة القرن وانهيار القضية الفلسطينية مرة وإلى الأبد، خاب ظنهم، فما فتئ هذا الشعب يصنع المعجزات، ويعض على الجراح ويقلب الطاولة على رؤوس المتآمرين. إنظر ماذا فعل الشعب المغربي.. رفضت الدولة منحهم رخصة لمظاهرة مركزية فانطلقت مظاهرات محلية في كل مدينة وبلدة وقرية.. ملايين البشر تدفقوا إلى الشوارع يحملون يافطات تنتصر لفلسطين وتقول «لا للتطبيع ـ التطبيع خيانة». لقد اختبأ المطبعون في جحورهم واضطروا لإصدار بيانات تضامن بلغة خشبية لا تعني شيئا، لكنهم يعرفون أن التيار قد انقلب ضدهم، وأن استمرار مسلسل التطبيع الذي خطط له كوشنير قد دفن الآن.
لكن ماذا فعلت الأنظمة العربية من غير المطبعين، بيانات استنكار؟ شكرا لكم. أهل غزة ليسوا بحاجة إلى بياناتكم. الحقيقة أن النظام العربي بائس يثبت مرة وراء أخرى أنه عاجز مرهون مسلوب الإرادة، يعمل على وقع أعداء الأمة. لم يهدد أحدهم بسحب السفير أو إغلاق سفارة ولا إلغاء معاهدة أو بقطع العلاقات، أو إلغاء العقود والمعاهدات، فهل من أحد سيأخذ هذا النظام العربي البائس على محمل الجد؟ الفلسطينيون هذه المرة لم يصيحوا كالعادة «وينكم يا عرب» لأنهم يعرفون الجواب.
أستاذ دراسات الشرق الأوسط والعلوم السياسية بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

 عبد الحميد صيام

جديد الأخبار