جاسوس فى إسطنبول!...أحمد رفعت

ثلاثاء, 19/12/2017 - 11:18

كان سلوكه وانحرافه الأخلاقى يدفعانه للبحث عن الحرية فى أى مكان بالعالم.. حمل جواز سفره وتذكرة الطائرة على أمل الهروب من مصر بأى طريقة، وما هى إلا ساعات حتى كانت طائرته تهبط فى مطار إسطنبول.. كانت إحدى ليالى الصيف الدافئة.. ذهب إلى فندق صغير ورخيص اسمه «بورال» فى قلب أحد الأحياء الشعبية الفقيرة.. وما أن وضع حقائبه إلا وانطلق إلى شوارع إسطنبول يبحث عن الحرية التى يبحث عنها ويحلم بها.. وفى إحدى حدائق اللهو التى تحولت إلى مرتع للنزوات وجد ضالته، وبعد عدة أيام من الوجود بها كل مساء اكتشف أن أحدهم سرق نقوده ومتعلقاته الشخصية فقرر استعجال ما جاء به إلى تركيا على الفور!

سأل موظف الاستقبال: أين مقر السفارة الإسرائيلية؟ رد الرجل: لا.. السفارة الإسرائيلية ليست هنا.. السفارة هناك فى أنقرة.. إنما هنا القنصلية الإسرائيلية.. شرح له الرجل الطريق، وبعد دقائق كان يقف أمام باب القنصلية الإسرائيلية.. رفع إصبعه للضغط على جرس الباب.. لم ترتعش يده لحظة، ولم يتردد فى الضغط العاجل.. لم يرد أحد.. كرر المحاولة مرة واثنتين، قطع المحاولة الأخيرة صوت الباب الذى فتح فجأة ووجد رجلاً ضخماً ينهره بحدة، قائلاً: ماذا تريد؟ لم يستطع الإجابة لعدم قدرته على التحدث بغير العربية، وهى المشكلة التى عانى منها منذ وصوله.. سحبه رجل الأمن إلى الداخل، وفى الداخل، وبعد ترتيبات محددة أبلغهم برغبته صراحة للعمل مع الموساد!!

وفى غرفة بإنارة هادئة صافحه أحدهم.. أبلغه أن اسمه «سامى»، وأنه من الموساد، وسأله عما يريد تحديداً؟.. راح يحكى معاناته «الشخصية» فى مصر، وأنه يريد الإقامة فى إسرائيل والعمل بها، وأنها «أرض» للحرية.. واستمر اللقاء لساعات، وفى اليوم التالى لساعات أخرى، وتحولت الساعات إلى أيام لاعتماده عميلاً بالفعل..!!

كان يعتقد أنهم سينقلونه إلى دولة العدو الإسرائيلى، إلا أن «سامى» أبلغه أنهم سيكلفونه بأولى مهامه.. ترقب التكليف ومرت اللحظات ثقيلة طويلة حتى أبلغه «سامى» بأن عليه السفر إلى بيروت على أن تكون مهمته الانضمام لإحدى المنظمات الفلسطينية الموجودة ببيروت.. يريدون كل شىء هناك؛ الأسماء، التسليح، الأماكن، عناوين القيادات.. وافق.. منحوه كمية كبيرة من المال ووعدوه بتأمينه، وأنهم إن طال بقاؤه هناك سيرسلون الأموال إليه بطريقتهم.. وفى بيروت نجح بالفعل فى إقناع إحدى المنظمات بالانضمام إليها.. وأبدى جدية غير متوقعة سببها الأساسى إدراكه أنه سيدفع روحه ثمناً إن تم اكتشافه.. وبات يسجل كل شى؛ الأسماء، المواقع، العناوين، التسليح، حتى جمع حصيلة كبيرة من البيانات، وآن الأوان لتسليمها والفرار بعيداً!

طلب إذناً بالسفر والعودة إلى القاهرة لاستخراج نسخة أصلية من شهادة الثانوية العامة.. وافقوا.. وللحقيقة يبقى قبوله بهذه السهولة لغزاً، إذ إنهم وافقوا على سفره ولم يلفت نظرهم ذهابه إلى الحدود السورية ومنها إلى دمشق التى بقى بها يوماً ومنها إلى حمص ثم إلى حلب وما هى إلا ساعات حتى عبر الحدود التركية، ومن هناك إلى إسطنبول، حيث كان «سامى» فى انتظاره!

أثنى «سامى» على مجهوده، وقد أدى بالفعل إلى استشهاد عدد من رجال المقاومة منهم ثلاثة من قيادة عملية اختطاف طائرة العال الإسرائيلية فى ميونخ، لكنه فاجأه بقوله إن مهمته المقبلة فى القاهرة!

حاول إقناعه بتكليفه بأى مهمة أخرى غير القاهرة.. كان جاسوس آخر سبقه فى السقوط بفضل عملية كبيرة للمخابرات المصرية.. حيث وجد شاكر الفاخورى نفسه بين أيدى رجال المخابرات حتى «بال» على نفسه فعلاً من هول المفاجأة التى لم يتخيلها.. كان هذا السقوط مدوياً وقتها، إلا أن «سامى» أمره بحسم لا يقبل الاعتراض أو الاحتجاج، وكلفه باختراق الأوساط الطلابية، خصوصاً طلبة جامعتى القاهرة وعين شمس، وكانت التظاهرات الطلابية لا تتوقف!

فى القاهرة أخيراً يقدم رِجلاً ويؤخر أخرى.. إلا أنه اختار فندقاً فخماً هذه المرة ومنه حمل الحقائب الكبيرة والهدايا لأسرته إلا أن الاستقبال الفاتر دفعه مع الرغبة فى إنجاز مهمته بسرعة إلى الذهاب لأخيه الطالب بكلية التجارة بجامعة عين شمس.. وفى غرفته بمبنى «د» بمبانى المدينة الجامعية، القريبة من مسجد الزعيم جمال عبدالناصر، تعرف على زملاء شقيقه، وسريعاً أقام معهم صداقات قوية ومنها إلى اللقاءات المنتظمة.. والقرب من مسجد الزعيم لم يمنعه من مهاجمته والتطاول عليه، إلا أنه أبدى رغبته فى التعرف على الطلبة الناصريين وكانوا يملأون الجامعات، ثم هاجم الرئيس السادات، ودفعه انفعاله إلى القول بأنه شارك فى الاعتداء على القنصلية المصرية ببنغازى رغم أنه لم يسافر إلى ليبيا أصلاً!!

تكررت اللقاءات وتكرر الانفعال.. إلا أنه قرر توسعة نشاطه بعيداً عن زملاء شقيقه.. فتعرف على «منى»، كانت فتاة جميلة تدرس اللغات الشرقية بآداب عين شمس، وابنة لعائلة كبيرة.. كانت من الناشطات طلابياً وعضواً بمجلس اتحاد الطلبة.. فاتحها برغبته فى الارتباط بها ولقاء أسرتها.. لكنه طلب منها معلومات عن زملائها وأضاف أنه يريد المعلومات مكتوبة! ثم هاجم معها الدولة والحكومة ومدح فى انفلات غير محسوب إسرائيل!

اختفت «منى» ولم تظهر لعدة أيام.. وفشل فى العثور عليها.. لكنه ذات مساء فى غرفة شقيقه بالمبنى «د» ولا يعرف أحد سر ذلك ولا أسبابه كرر أمام شقيقه وزملائه قصة عدوانه على القنصلية المصرية ومدح فى العدو الإسرائيلى، ثم قال إنه زار القنصلية الإسرائيلية بإسطنبول وإنهم استقبلوه بشكل جيد هناك.. وما أن انتهت السهرة وغادر الزملاء غرفة شقيقه إلا وكانت قوة من جهاز مباحث أمن الدولة تلقى القبض عليه فى مساء 19 مايو 1973 بعد أن تم تسجيل اللقاء كاملاً مشفوعاً بالاعترافات المثيرة!

كان الطلبة الذين يتظاهرون ضد رئيسهم يستعجلون الحرب وطنيين مخلصين يختلفون مع النظام ولكن لا يتآمرون عليه ولا على بلدهم.. كانوا بالإجماع قد ذهبوا إلى اللواء سيد فهمى، رئيس الجهاز، صار وزيراً للداخلية فيما بعد، وأقيل بعد أن رفض استخدام السلاح الحى ضد المتظاهرين فى انتفاضة يناير 1977، وجاء بعده اللواء النبوى إسماعيل، الذى كلف بدوره نائبه، وكان اللواء أحمد رشدى، الذى جاء وزيراً أيضاً فى الثمانينات، والذى استخرج الإذن القضائى للتسجيل والقبض على المجرم!

كانت «منى»، الناشطة الثائرة، ذهبت أيضاً إلى طريق آخر.. حيث أبلغت المخابرات العامة وليس أمن الدولة.. والتى راقبت الأمر كله واطمأنت أن كل شىء تحت السيطرة ليثبت المصريون وطنيتهم وقدرتهم على الفرز بين ما هو خبيث وبين ما هو طيب فى وعى بلغ حدوده القصوى!

سقط إذاً الجاسوس عمر حمودة، الذى كان يعرف قصة الجاسوس شاكر الفاخورى.. لكنه نسى فقط العبارة التى قالها له أحد الضباط الذين قبضوا عليه وهى: «لتدفع ثمن خيانتك.. هذه الأرض التى تبولت عليها الآن رعباً منحتك الأمن والأمان فبعتها.. بعتها لأقذر كلاب الأرض نجاسة وخسة.. فتعال إلى مصيرك المحتوم حيث لن ينقذك أحد من حبل المشنقة»!!

تذكروا هذه القصة جيداً.. وارووها لأولادكم.. فيوم من الأيام.. سنكتب وسيكتبون مثلها.. عن جواسيس آخرين.. وعملاء مثله فى الخسة والنجاسة.. ذهبوا بأنفسهم إلى أنقرة وإسطنبول.. يهاجمون وطنهم وشعبهم وجيشهم كل ساعة.. لكن ساعة الحقيقة آتية.. وساعة الحساب قادمة.. ولهم فى الحساب دورتان.. الأولى فى الدنيا هنا بين رجالنا الأوفياء حماة الديار.. وساعة بين يدى العادل الجبار!

جديد الأخبار