لم تمر سوى بضعة أيام على خطاب العرش الموجه إلى الأمة ليلة يوم السبت 30 يوليوز 2022، بمناسبة حلول الذكرى 23 لتولي الملك محمد السادس مقاليد الحكم، وتجديد روابط البيعة المتبادلة بين العرش والشعب. والذي أهاب فيه جلالته بالمغاربة إلى مواصلة التحلي بقيم الأخوة والتضامن وحسن الجوار التي تربطهم بأشقائهم الجزائريين، الذين أبى إلا يطمئنهم بأنهم سيجدون دوما ومهما كانت الظروف والأحوال المغرب والمغاربة إلى جانبهم، مؤكدا لهم على عدم السماح لأي كان بالإساءة إليهم، وتطلعه المستمر للعمل مع الرئاسة الجزائرية لوضع اليد في اليد، وإقامة علاقات طبيعية بين شعبين شقيقين، تجمعهم روابط تاريخية وإنسانية والمصير المشترك، حتى اشتعلت فجأة مواقع التواصل الاجتماعي بالانتقادات لرئيس "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" أحمد الريسوني بخصوص تصريحاته حول موريتانيا والصحراء وعن قدرة المغاربة على الانخراط الكامل واللامشروط في مسيرة أخرى إلى مدينة تندوف الجزائرية وليس فقط نحو مدينة العيون المغربية، في حوار أجراه معه أحد المواقع الإلكترونية، حيث ينطبق عليه القول: "سكت دهرا ونطق كفرا" عندما قال بأن "موريتانيا غلط من الأساس، إلى جانب قضية الصحراء" وأن "المغرب ينبغي أن يعود إلى ما كان عليه قبل الغزو الأوروبي، لما كانت موريتانيا جزء منه" بالإضافة إلى أنه تحدث عن "استعداد المغاربة والعلماء والدعاة في المغرب للجهاد بالمال والنفس، والزحف بالملايين إلى مدينة تندوف الجزائرية".
وهي الخرجة الإعلامية المتهورة التي لا أحد غيره يعلم خلفياتها وأهدافها في مثل هذا التوقيت ونحن على بعد أيام قليلة من احتفال المغرب بالذكرى ال"69" لثورة الملك والشعب المجيدة. إذ أثارت هذه التصريحات زوبعة كبرى من ردود الفعل الغاضبة ليس فقط من قبل الجزائريين والموريتانيين، بل حتى من لدن المغاربة أنفسهم. حيث سارع الناطق الرسمي باسم الحكومة الموريتانية إلى الإعراب عن قلق بلاده مما ورد على لسان رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من أقوال وصفها ب"المنكرة والمستنكرة والمدانة والمشجوبة" ومشددا على أن "التاريخ والجغرافيا يكذبانها، بالإضافة إلى أنها لا تستند إلى أي مصدر يمكن أن يضفي عليها نوعا من الصدقية" وهي كذلك "ضد شواهد التاريخ وضد شواهد الجغرافيا وضد الشرائع الدولية" وتخالف سلوك من ينتظر منه نشر الطمأنينة واحترام الآخر وعدم استفزازه.
ولم تتأخر هيئة العلماء الموريتانيين في الدخول على الخط عبر بيان خاص بشأن "الغلطة الأساسية"، معتبرين ان تصريحاته "مريبة وغير ودية ومستفزة"، ومشيرين إلى أن بلادهم "لم تخضع منذ القرن الخامس الهجري لحكم دولة إسلامية، غير دولة المرابطين التي نشأت في موريتانيا، وخضعت لها بعض دول الجوار ووصل ملكها إلى الأندلس". منبهين إلى أنه يتعين على قادة الهيئات الإسلامية "احترام الحوزات الترابية للدول، وألا تلتبس عليهم ساحات الجهاد الشرعي مع غيرها من ساحات أذية المسلمين" فهل كان الريسوني بحاجة إلى من يجره من أذنيه ويلقنه مثل هذه الدروس القيمة، وهو قائد أكبر مؤسسة إسلامية تجمع علماء المسلمين من مختلف بلدان العالم؟ ثم ألم يستمع إلى خطاب العرش الذي شدد فيه ملك البلاد على رفضه لأي إساءة إلى الجزائر وشعبها، وأكد من خلاله حرصه الشديد على تعزيز التقارب والتفاهم بين الشعبين؟
ففي ذات السياق لم تفوت بعض الشخصيات المدنية والعسكرية الجزائرية مثل هذه الفرصة "الثمينة"، للإعلان عن تذمرها واستنكارها الشديدين لتلك التصريحات، واصفة إياها بالصادمة للمشاعر والمثيرة للفتن بين الشعوب، لما تتميز به من أسلوب غير المسؤول ومتطاول على سيادة الدول وكرامة شعوبها، كما أن هناك شخصيات أخرى لم تتردد في إدانتها واعتبرتها حاقدة وتحريضية بحق الجزائر وموريتانيا، بالنظر إلى ما تدعو إليه من فتنة واقتتال بين الشعوب. علاوة على أن منسوب الاستياء والغضب بلغ لدى عدد من علماء الجزائر والأحزاب الإسلامية إلى حد المطالبة بتجميد عمل "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" معتبرين أنه "لا يصلح بين المسلمين، بقدر ما يؤجج نيران الفرقة بينهم" ومنددين بما وصفوه "انحرافا خطيرا عن دوره الأساسي".
وجدير بالذكر أنه على عكس بعض القياديين والمريدين في حزب العدالة والتنمية وذراعه الدعوية حركة التوحيد والإصلاح، الذين يباركون تصريحات الفقيه المقاصدي الريسوني، بدعوى أنه معروف باستقلاليته ونزاهته الفكرية إلى جانب دفاعه المستميت عن حرية التعبير التلقائي عن الأفكار والمواقف، فإن الكثير من المغاربة يرفضون مثل هذه الخرجات غير المحسوبة العواقب، والتي يرى فيها بعضهم أنها لم تأت بشكل عفوي، وإنما هي مقصودة، وإلا ما الداعي إلى إقحام إسرائيل في حديثه؟ ثم متى كان المغرب يستقوي بجهات أخرى، والشعب المغربي قادر على حماية وحدته الترابية وفداء الوطن بالروح والدم؟ ألم يكن حريا بالرجل التحلي بالحكمة والرصانة في هكذا خرجات إعلامية، ولاسيما أنه يعلم أن النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية أثار ومازال يثير حنق حكام قصر المرادية وأبواقهم الإعلامية؟
إن الريسوني يعرف جيدا حجم الجهود الجبارة التي ما انفك المغرب يبذلها بقيادة عاهله المفدى من أجل طي ملف قضية الصحراء الشائك، ويعرف كذلك أنه ليس من حق أي كان ومهما كان لا يتحمل أي مسؤولية رسمية التدخل في المواضيع ذات الحساسية الكبرى، وأنه كان من الأجدر به إذا كان يحب بالفعل وطنه ويخلص إليه، الحرص على استثمار موقعه كرئيس لاتحاد العلماء المسلمين في خدمة قضيته الأولى، بدل أن يتسبب ولو بغير قصد في نسف جهود بلاده وخلق المزيد من المتاعب لها.
بقلم: إسماعيل الحلوتي
أخبارنا