لا شيء مستدام يمكن بناؤه على غير أساس. هذه الحقيقة البديهية تنطبق بطبيعة الحال على ديمومة الدولة واستقرار مؤسساتها.
إن الشعب هو من يُسْنِد دعائم الصرْح الوطني في مجمله. وفي مقابل ذلك، ينتظر من حكامه تلبية بعض الحاجات الأساسية: وسائل العيش، الصحة، التعليم، الأمن، إلخ. هذه هي ركائز ما يسمى بالعقد الاجتماعي. إنها شروط لا غنى عنها لقيام مجتمع يعيش في انسجام ووئام.
من هذا المنظور وبصرف النظر عن الارتياح المؤقت الملاحظ حاليا، لا مناص من التفكير جدّيا وبصورة ملحّة في بناء مشروع مجتمعي جديد على أساس توزيع دستوري للسلطة بين مختلف المكوّنات الوطنية. ويلزم أن يكون هذا التوزيع عادلا ومستداما وأن يترتب عليه توزيع عادل لثروة الوطن بين جميع المواطنين.
ينبغي ألا ننخدع بخطابات مُمْتهِني التملّق والكلام المنمّق المعسول، إذ لا مندوحة لنا من الإقرار بالحقيقة التي يفرضها الواقع، ألا وهي أن المحلل الحصيف، مهما كانت زاوية نظره، يرى أن هذه المسألة شرط لازم للحفاظ على الوحدة الوطنية، والسلم الأهلي، وربما استمرارية الدولة نفسها.
وضعية تظهر كل مؤشّراتها إشارة الخطر الداهم !
ذلك أننا لا يمكن أن نستمر في التغافل عن الإشارات الحمراء التي تظهر على واجهة البلد. فبعض المثقفين المهتمين بإطلاق التحذيرات قد نبّهوا إلى خطورة استمرار الوضع الراهن. وهذا هو الدور المنوط بأي نخبة وطنية. غير أن هذه التحذيرات المتقطّعة والمتناثرة لم يكن لها تأثير يُذكر على سير الأحداث، لا سيما وأنها أحيانا تصدر بنبرة مُلاطفة ومهادنة.
والواقع أننا أمام أفق مُكْفَهِرّ تتجمّع فيه غيوم داكنة تلمع فيها بروق مخيفة ورعود مُزَمْجِرَة. إنها علامات تُنْبئ عن حدوث وشيك لاضطرابات ماحِقَة.
إن حرص البعض على التنعّم برفاهية "ولك الساعة التي أنت فيها"، وتشبّث آخرين بوظائفهم، وتسابق غيرهم إلى الثراء السريع، أمور لا يجوز أن تُنسينا المشاكل الوجودية التي تهدد مصير بلادنا.
فحتى الآن أرْجأت جميع الأنظمة المتعاقبة حسمَ المشكلة الوطنية بالرغم من أنها تكتسي أهمية قصوى وذات طابع ملحّ للغاية. وحتى لو شعروا على نحو باهت بخطورتها، فإن القائمين على هذه الأنظمة كانوا يتصورون أنها قضية معقدة وذات تداعيات غير متحكّم فيها، ومن الأفضل إذن تفادي الخوض في متاهاتها. ولا ريب أن دافعهم إلى هذا الموقف هو الآثار التي قد تؤدي إلى زعزعة أركان حكمهم.
ولم يجرؤ أي رئيس دولة على تجاوز هذه القنطرة إلى حد الساعة. ولا يزال التسويف والمماطلة يدفعان إلى تأجيل النظر إلى هذه القضية.
المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار
لاشك أن المصلحة العليا للوطن يجب أن تعلو على أي اعتبار آخر حتى ولو كان مصلحة رئيس للدولة. وهذا راجع في المقام الأول إلى الإرادة السياسية. فكما يقول سينيك: "إننا لا نجرؤ على اقتحام الأمور لأنها صعبة، بل ما يجعلها في نظرنا صعبة هو أننا لا نجرؤ على اقتحامها".
ولإدراك أبعاد الضرورة التي تدفع بإلحاح إلى إعادة صياغة الدستور لبناء مؤسسات الدولة على أسس مغايرة، ينبغي أن نتصور المآلات خلال السنوات القادمة. فالوضعية السياسية بطبيعتها متقلبة، وقد تشهد بلادنا في ظل ظرفية وطنية أو جيوسياسية غير مؤاتية قلاقلَ واضطرابات لا يمكن التنبّؤ بعواقبها.
إن هذا السيف المُصْلت على رقابنا سيبقى تهديدا مستمرا للتلاحم الوطني. لذا يتعيّن إحداث هبّة وطنية عامة على جميع المستويات، تحت قيادة رئيس الجمهورية، لتحصين البلاد مما لا تُحمد عقباه.
وفي مواجهة ساحة وطنية متشرْذمة على خلفية التجاذبات العرقية والشرائحية، لا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا بنبْذ أساليب الحكامة التي ظلت سائدة حتى الآن.
بتعبير آخر: يجدر اعتماد استراتيجية شمولية تشكل قطيعة مع الممارسات السياسية العقيمة المنتهجة في الماضي.
إن السير على غير هدى لن يصل بنا إلى برّ الأمان. لقد ولّى عهد الإجراءات التجميلية والترقيعية، والانتخابات الضبابية. فمن أعماق البلاد وبالأخص من الأحياء الشعبية، تصعد صرخات مدوية: إنها موجة مكتسحة قيد التشكل. فالمواطنون الموْتورون بعقود من الإحباط والوعود العُرْقوبية يطمحون إلى نيل الحد الأدنى من الكرامة والرفاهية.
وقد أصبح الرأي العام، والمجتمع المدني، وشبكات التواصل الاجتماعي، في مواجهة مفتوحة مع التعسف والاستبداد والإجحاف في توزيع الثروة الوطنية.
صياغة دستور جديد أولوية وطنية
لا أمل في تغيير هذا الوضع المزْري إلا بإعادة صياغة الدستور. لا يتعلق الأمر بمجرد تعديل أو مراجعة للدستور وإنما يلزم التغيير الجذري لهذا القانون الأساسي.
بمقدور لجنة وطنية مؤلفة من خبراء أن تقترح على رئيس الجمهورية مسودّة تُعرض على محافل وطنية تصاحبها حملة شرح وتحسيس، ولا شك أنها ستثير حماسا شعبيا منقطع النظير.
منذ عقود والمشاكل تتراكم، ونحن نراوح مكاننا. والحال أن العلوم السياسية تؤكد أن المشاكل قد تتضاعف لكنها لا تتطابق. ولا بد أن يؤدي تراكمها إلى انهيار الدولة عاجلا أو آجلا.
ويتحتم أن ترتكز إعادة صياغة الدستور على نقطة أساسية: الإنصاف على جميع الأصعدة لكافة المكونات الوطنية.
ولمن لايزالون ينادون باستقرار الوضع القائم حفاظا على منصب أو مكاسب مادية، نقول إن موريتانيا لا يمكن أن تظل تُدار بعقلية ثمانينات القرن الفارط.
فالبلاد بحاجة إلى فنيين يصلحون جهاز قاطرتها ويضعونها على السكة الصحيحة. رجال نزهاء أكفاء لديهم حسٌّ مُرْهف بحركة التاريخ واستشراف المستقبل.
وختاما، ينبغي التذكير بحقيقة غالبا ما تغيب عمن يتولون سُدة الحكم عبر العالم، ألا هي أن شغل منصب في الدوائر العليا أو القرب من رئيس الدولة لا يخوّل صاحبه بالضرورة كفاءة أو قدرة على اسْتِكْناه الملفات المعقدة. وقد يحل الاقتناع بهذا المُعْطى الجوهري الكثيرَ من المشاكل.
إن موريتانيا توجد على مفترق طرق. ولو قُيِّض لها رئيس – كائنا من كان – يُمِدّها بدستور ملائم، لأنقذ البلاد من الفُرْقة والشقاق والفوضى ولَدَخل التاريخ من بابه الواسع.
تنبيه:
لاسْتجلاء المزيد من جوانب الإشكالية المتطرّق إليها في هذه الورقة حول التهديدات التي تتعرض لها موريتانيا على الصعيدين الداخلي والجيوسياسي، أحيل القارئ إلى كتابي الجديد الموْسوم بعنوان "دراسات موجّهة إلى عناية رئيس الجمهورية". وهو مصنّف متوفر لدى المكتبات التجارية.