
سعدتُ هذا المساء بالزيارة التي قام بها أخي وصديقي حسن الزهيري، مدير المركز الثقافي المغربي بنواكشوط. كانت جلسة حوار صادقة، تطرقنا خلالها إلى واقع القراءة العمومية، وما تعانيه المكتبات العامة في زمنٍ اكتسحت فيه الوسائط الرقمية حياتنا، حتى كادت تنسينا دفء الورق، وحميمية الجلوس بين الرفوف، وبريق الاكتشاف الذي لا تمنحه خوارزميات البحث.
لم تخلُ هذه الزيارة من استرجاعٍ حميم لذاكرة المكان. لقد تعرفتُ على هذا المركز منتصف الثمانينات، في وقتٍ كانت فيه نواكشوط تعيد ترتيب ملامحها العمرانية. كان المركز آنذاك يشمخ فوق كثيبٍ أحمر نقي، عند نقطة فاصلة بين المقاطعتين الرابعة والسادسة، حيث كانت الأخيرة لا تزال آنذاك في طور التشكل، وكان شارع كيندي يشكل حدود العمران. هناك، حيث انتهت الرمال وبدأ الإسمنت، نهض المركز الثقافي المغربي كواحة فكرية في صحراء منسية، وكجسر للتلاقي بين ضفّتي الثقافة المغاربية.
منذ نشأته، أدّى المركز دورًا محوريًا في نشر الثقافة المغربية والمغاربية، واحتضن أنشطة متنوعة شملت: ندوات فكرية، معارض فنية، دروسًا لغوية (بالعربية والفرنسية)، إلى جانب مكتبة غنية تزخر بآلاف الكتب في التاريخ، والجغرافيا، والعلوم الشرعية، والفكر العربي الإسلامي. كان، ولا يزال، ملاذًا للطالب، والباحث، والفنان، ومأوى لحوار متجدد بين ضمائر الفكر.
ولعلّ أجمل ما يميز هذا الصرح هو المسجد التحفة المجاور لمدخله، الذي بُني على نمط مسجد الكتبية الشهير بمراكش، مستلهِمًا روعة الطراز الموحدي الأندلسي:
• مئذنته الرباعية الشكل،
• أقواسه الحدوية الرشيقة،
• أبوابه الخشبية المنقوشة،
كلها تشهد على جمال العمارة المغربية، وتؤسس لروابط روحية وثقافية متجذرة بين المغرب وموريتانيا، في ظل المدرسة المالكية، وامتداداتها الصوفية والعلمية العميقة.
لكن، ويا للأسف، لم يسلم هذا المعلم من آثار التحولات العمرانية العشوائية. فالمنطقة التي كانت بالأمس واحة نظيفة وهادئة، أصبحت اليوم بيئة مشوّهة، تعاني من فوضى الأسواق، وانتشار القاذورات، وبيع السمك في قارعة الطريق، في ظل غيابٍ شبه تام لأدنى شروط التنظيم. وقد أثّرت هذه الفوضى سلبًا على إشعاع المركز، فانخفض عدد زوّاره، وبات من الصعب حتى العثور على مكان لركن السيارة، دع عنك صفاء الذهن والسكينة المطلوبة للتفاعل الثقافي.
ما يؤلم أكثر أن صرحًا كهذا — ظل شامخًا لعقود رغم الإهمال — قد يجد نفسه اليوم مهدّدًا لا بسبب تقادم الزمن، بل بسبب تدهور الذوق العام، وغياب الرقابة الحضرية، وإهمال الذاكرة المشتركة.
إن إعادة الاعتبار للمركز الثقافي المغربي لا تخص المغرب وحده، بل هي مسؤولية نواكشوط، وموريتانيا، وكل المثقفين والمحبين لهذا الفضاء، الذي كتب جزءًا من تاريخ الوعي الثقافي في هذا البلد.
كامل التحية والتقدير لهذا الصمود في بيئة مناوئة لنشر العلم والثقافة، وجزيل الشكر لديناميكية أخي حسن الزهيري، لما يبذله من نشاط ثقافي متنوع رغم التحديات المذكورة، وللأثر الذي تركه لنا في سجل المكتب.