ابن بطوطة الأفريقي.. ماذا شاهد الرحالة العربي بمجاهل الصحراء الكبرى؟

اثنين, 01/04/2019 - 11:28

غم أنه زار معظم أنحاء المعمورة المعروفة في زمنه خلال رحلته إلى الحج التي استمرت 27 عاما، فإن رحلة ابن بطوطة الأفريقية في الصحراء الكبرى تعد واحدة من أخطر وأصعب الرحلات التي سجلها الرحّالة العربي الأشهر في التاريخ وكاد أن يفقد خلالها حياته مرات عدة، لكنه عاد إلى المغرب بعدها ليدوّن كتابه، ويصف الممالك الإسلامية بغرب أفريقيا والحياة الثقافية المزدهرة بها في العصور الوسطى.

ففي منتصف القرن الرابع عشر تجهز ابن بطوطة للرحلة الشاقة بعد أن كان قد طاف بأنحاء المعمورة بما في ذلك شمال أفريقيا ومصر والشام والعراق وفارس والصومال والشرق الأقصى والصين والهند، واكتسب خلال رحلاته خبرات أفادته كثيرا في رحلته الأصعب.

سافر ابن بطوطة من فاس متجها إلى واحة "سجلماسة" في صحراء المغرب، وهناك اشترى جمال الرحلة وتجهّز جيدا، وقام بتسمين الجمال لأربعة أشهر قبل أن ينطلق مع قافلة من الجمال مواجها مجموعة من التحديات، أولها كان الأمان في الصحراء المليئة بقطّاع الطرق واللصوص والقتلة.

لحسن حظ ابن بطوطة فقد صادفت رحلته تحول قبائل صحراوية من لصوص إلى حماة القوافل بمقابل متفق عليه، وكانت قبيلة المسوفة من قبائل صنهاجة هي حماة القافلة، وكان حراسها وقادة القافلة وأدلتها من هذه القبيلة التي كان ابن بطوطة ومرافقوه في القافلة مجبرين على الوثوق بهم بدلاً من الوقوع في أيديهم. 

اكتشاف الصحراء
وصلت القافلة بعد 25 يومًا إلى "تاغازا"، وهي قرية في مارادي بالنيجر الحالية، ولاحظ أن مساجدها ومنازلها مبنية من ألواح الملح الصخري ومسقوفة بجلد الإبل وليس هناك أشجار لأن التربة رملية، لكن مناجم الملح التي تم حفرها جعلت المنطقة مركزا اقتصادياً يتبادل فيه الناس قطع الملح كنقود تستبدل بالذهب والفضة.

لكنه لم يبق فيها إلا عشرة أيام لأن مياهها كانت مرة ومالحة، وكان الذباب منتشراً فيها، ورحل منها إلى واحة "تاساراهلا" لثلاثة أيام تحضيرًا للرحلة الكبرى عبر الصحراء الشاسعة التي شكلت الطريق التجاري القديم الذي يمر عبر أرض صخرية كانت عرضة للاختفاء تحت جبال الرمال.

وبالطبع كانت هناك مشكلة المياه الدائمة، فالعطش الشديد سمة الرحلات الصحراوية، وكانت القافلة ترسل أحياناً بعض الحراس لجلب المياه من الواحات القريبة إذا تسنى نقل كمية كبيرة في حاويات المياه المصنوعة من جلد الماعز، وكانت القافلة قد أرسلت كشافا ليجلب لها الماء في الطريق من واحة تاساراهلا إلى ولاتة، وهي مدينة تاريخية موريتانية قرب حدود موريتانيا ومالي الحالية.

وهناك أيضا البراغيث الموجودة في كل مكان، ويلجأ ركاب القافلة لارتداء حبال منقوعة في الزئبق حول الرقبة لطردها، كما أن هناك أحيانًا جثثا متعفنة حول الآبار والخيام الصحراوية تجلب الذباب، وبالطبع توجد الأفاعي التي تقتل الكثيرين.

وعرفت ولاتة بوصفها مركزا تجاريا للقوافل المتجهة لشمال أفريقيا ووصفها ابن بطوطة بالغنى والرخاء في عهده، وفي القرون التالية وخاصة في القرن السادس عشر أصبحت مركزا ثقافيا صحراويا كبيرا بعد أن هاجر إليها علماء تومبوكتو المضطربة وكذلك شخصيات ثقافية من فاس وتلمسان ومراكش وحتى أندلسيين أمدّوا المدينة بإشعاع ثقافي متنوع وجعلوها منارة علمية للفقه المالكي في الصحراء الجدباء.

ومن ولاتة رحل ابن بطوطة جنوبا بمحاذاة نهر النيجر، حتى وصل لعاصمة مالي التي كانت إمبراطورية قوية ومزدهرة، وهناك التقى مانسا سليمان شقيق مانسا موسى أو الملك الذهبي الذي بلغت الإمبراطورية في عهده أوج قوتها من ساحل المحيط الأطلنطي غرباً وإلى نهر النيجر شرقاً بما في ذلك مناجم الذهب في غينيا التي جعلت الإمبراطورية شديدة الثراء.

أسس هذه السلطنة شعب "الماندنجوه" ومعناها "المتكلمون" بلغة الماندي، وكانت إحدى الحضارات الأفريقية المزدهرة بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر، واعتنق ملوك كانجابا الذين أسسوها الإسلام وانتصروا على ملوك كانياجا المنافسين لهم لتتسع حدود دولتهم وتضم العديد من مدن السودان الكبير وتسيطر على مصادر الثروة، وأهمها الذهب والملح والنحاس، وتصبح ملتقى القوافل التجارية عبر الصحراء الأفريقية بين شرق وغرب وشمال القارة.

ملصق لمعرض أقيم في المغرب تكريما للرحالة الشهير ابن بطوطة (الجزيرة)

لكن السلطنة تعرضت لمظاهر الضعف بعد السلطان الذهبي مانسا موسى، وقتل الوباء الكثير من الناس، واشتكى ابن بطوطة من تجاهل السلطان له وعدم الإحسان إليه لشهرين حتى دخل رمضان، فعزم على زيارته، وقال له "إني سافرت لبلاد الدنيا ولقيت ملوكها، ولي ببلادك أربعة أشهر، ولم تضيفني، ولا أعطيتني شيئا. فماذا أقول عنك عند السلاطين؟ فقال: إني لم أرك ولا علمت بك، فقام القاضي وابن الفقيه فردا عليه، وقالا: إنه قد سلم عليك، وبعثت إليه الطعام، فأمر لي عند ذلك بدار أنزل بها، ونفقة تجري علي، ثم فرق على القاضي والخطيب والفقهاء مالا، ليلة سبع وعشرين من رمضان، يسمونه الزكاة، وأعطاني معهم ثلاثة وثلاثين مثقالاً وثلثاً، وأحسن إلي عند سفري بمئة مثقال ذهبا".

ولاحظ ابن بطوطة أن بعض النساء وخاصة الإيماء والجواري كن يتجولن عاريات تماما في الشوارع، ووصف الأمن والعدل في مملكة مالي، معتبراً أن سلطانهم لا يتسامح في الظلم ولا يخاف المسافر في بلادهم ولا يخشى المقيم من السرقة أو الغصب، وبعد أن غادر العاصمة اتجه مع تاجر مالي إلى تمبكتو التي لم تكن اكتسبت شهرتها الواسعة حتى ذلك الحين.

ورحل بعدها إلى غاو شمال شرق مالي الحالية التي كانت مركزا اقتصاديا مهما كذلك، وانطلق بعدها مع قافلة متجهة إلى واحة "تاكيدا"، لكن سلطان المغرب أبو عنان فارس أرسل يستدعيه فعاد من رحلاته عام 1354.

وأوصاه السلطان بعد عودته أن يدوّن رحلاته، فأملى كتابه على محمد بن جزي الكلبي بمدينة فاس وسماه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، وفيه وصف أسفاره ورحلاته ودوّن ما شاهده.

وتكاد رحلة الصحراء الأفريقية أن تكون خاتمة رحلات ابن بطوطة الكبرى، فبعد السفر لما يقرب من 120 ألف كيلومتر قطعها بين قارات وبلدان العالم، غامر باستكشاف مجاهل الصحراء الأفريقية وتأثر بها وهو يدوّن رحلاته بأكملها بعد عودته إلى المغرب أخيرا، ليتحقق ما قاله عن نفسه في مخطوطته الشهيرة "بلغت بحمد الله مرادي في الدنيا وهو السيّاحة في الأرض، وبلغت من ذلك ما لم يبلغه غيري فيما أعلمه".

عمران عبد الله

 الجزيرة

جديد الأخبار