"معجزة الأمير الصغير": الترجمة تنقذ اللغات المقهورة؟ ..‏فيديو ‏ (Le Petit Prince d'Antoine Saint Exupéry)

سبت, 27/04/2019 - 12:02

"أعتقد أن الكوكب الذي جاء منه الأمير الصغير هو الكوكب رقم ب 612، ويرتكز اعتقادي على أسباب وجيهة. فإن هذا الكوكب لم يُر في المجهر إلا مرة واحدة في سنة 1909، وكان الذي رآه فلكياً تركياً. أثبت الفلكي اكتشافه بأدلة قاطعة في مؤتمر فلكي دولي غير أنه لم يجد من يصدقه لأنه كان مرتدياً ثياباً تركية، وهذا دأب الكبار فما الحيلة؟ ثم إنه، لحسن طالع الكوكب رقم ب 612، قام في تركيا ديكتاتور فرض على الشعب، تحت طائلة الموت، ارتداء الألبسة الأوروبية، فارتدى الفلكي التركي لباساً أوروبياً أنيقاً، وأدلى في سنة 1920 ببيانه وأدلته عن اكتشافه، فانضم الجميع إلى رأيه هذه المرة".

في تلك الفقرة من "الأمير الصغير"، يسخر الراوي من منطق "الكبار"، وبحساسية فريدة وسابقة لعصرها، يطرح النص الموجه للأطفال بالأساس، تشريحاً عميقاً إلى أقصى حد، مع بساطته، للمركزية الأوروبية والتفاوت غير العادل للقيمة النسبية للثقافات، مع نقد لمفهوم حيادية المعرفة العلمية الزائف، وكذا لجمهورية أتاتورك "التحديثية" في تركيا. يكتب سانت اكزوبري، هذا كله، في العام 1943، قبل النظريات ما بعد الاستعمارية، والدارسات العلمية، بعقدين على الأقل. يظل أميرنا أشقر، أوروبياً جداً، وهذا أمر سيتبرم منه المنظرون ما بعد الاستعماريين بالتأكيد. إلا أن قصته تروى من وجه نظر طفولية للعالم، وكما يخيل لإدوارد سعيد ورفاقه، فتجربة الطفولة وتصويرها ترتبط رباطاً وثيقاً بتجربة المستعمرين، نظرة من أسفل، ترى العالم وهي تحت الوصاية.

وربما بفضل تلك الطبقات المتعددة التي يتضمنها النص الذي يحمل قراءات عديدة للأطفال والبالغين بالقدر نفسه، فإن "الأمير الصغير" أصبح في العام 2017، أكثر الكتب ترجمة في العالم، بعد الكتاب المقدس. وربما كان من باب الصدفة أن تكون اللغة الرقم 300، التذي ترجم إليها الكتاب، ووصلت به إلى المركز الأول، هي اللهجة "الحسانية" المشتقة من عربية قبائل "بني حسان" التي استقرت في موريتانيا والصحراء المغربية. لكن تلك الصدفة، لا تنفي الدلالة اللافتة بالتأكيد، فالحسانية هي لغة منطقة "راس جوبي" في جنوب المغرب، التي عمل بها سانت اكزوبري قبل الحرب الثانية، والتي استلهم من صحرائها وصف المكان حيث تجري أحداث "الأمير الصغير".

يعود بنا الفيلم التسجيلي الفرنسي "معجزة الأمير الصغير" (2018)، والذي يعرض حالياً في السينمات الأوروبية، إلى الصحراء الكبرى مرة أخرى. فمخرجته الهولندية مارخولين بونسترا تلتقي بالمغربي، الحبيب فؤاد، الذي ترجم الكتاب إلى اللغة الأمازيغية، مكتوباً بأبجدية "تفينياغ" في العام 2009. وتلتقي أيضاً الشاعر المغربي، عمر طاووس، الذي يكتب شعره بالأمازيغية، ليتحدثا في الفيلم عما تعنيه الترجمة الأمازيغية لهما بشكل شخصي وللغتهما. وإلى جانب فؤاد وطاووس، اللذين عملا ثلاثة عقود لأحياء لغتهما الأم، فإن الفيلم يلتقي مترجمي الكتاب إلى لغة شعب الـ"سامي" في فنلندا، وإلى لغة "تيبت"، ولغة "ناهوات" الأزتيكية والتي يتحدثها اليوم 300 شخص فقط في السلفادور، وأخيراً مترجمه إلي لغة "أليور" التي تتحدثها بعض القبائل في أوغندا والكونغو.
 

Video Player

يركز الفيلم على سردية العالمية واللاتاريخية حول أعمال "الأدب العالمي"، أي أن سر شهرتها الواسعة وقابليتها وخلودها، يكمن في تلك الموضوعات المشتركة بين البشر والثابتة عبر الزمن، والتي يتناول "الأمير الصغير" منها الوحدة والصداقة والحب والاغتراب. وبشكل أكثر تعقيداً وتقنية، يتناول الفيلم الإشكاليات المتعلقة بالترجمة، وإعادة الكتابة في لغات مهددة، ومقموعة، وعلى الهامش، ومحرومة في أحيان كثيرة من تراث مكتوب أو تقاليد أدبية راسخة. يقودنا الفيلم في النهاية إلى الإيمان بمعجزة "الأمير الصغير" التي تتجاوز تمثيلها للقيم الإنسانية المشتركة، بل كذلك لإنقاذها لتلك اللغات الموشكة على الانقراض، والمساهمة في أحيائها.

لكن ما يثيره الفيلم أكثر، هو تلك الأسئلة التي لم يطرحها؟ فلماذا كانت تلك القيم المشتركة دائماً ممثلة في نصوص مكتوبة باللغات الأوروبية الرئيسة دون غيرها من اللغات؟ لماذا الكتاب المقدس تحديداً هو الكتاب الأكثر ترجمة، ويأتي بعده كتاب فرنسي، وثالث إيطالي؟ يجيب أندريه ليفيفير، أحد أهم مؤسسي "دراسات الترجمة"، حين يكتب: "الآداب القومية المكتوبة بلغات غير مستخدمة على نظام واسع، لن يكتب لها الانضمام إلى الأدب العالمي إلا إذا خضعت للنظام النصي أو صور تشكيل الكلام، الذي بني عليه مفهوم الأدب العالمي". وما يتحدث عنه ليفيفير هنا، هو ما يسميه هو "إعادة كتابة"، فالنصوص التي تنتمي للغات المهيمنة ونظامها النصي وما يحمله من هيبة، تصبح ترجمتها عملية رئيسية في خلق ثقافة "مقبولة" ورأس مال معنوي للغات الهامشية والمتراجعة.

لكن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى نبذ ترجمات "الأمير الصغير"، بوصفها عملية خضوع مجردة، فهناك ما يبدو مشتركاً بين رواية سانت اكزوبري وبين كاتبها وعملية الترجمة نفسها. فنص الأمير الصغير الذي لا يصعب تبين ثيمات الوحدة والاغتراب فيه، يعكس تجربة كاتبها مع المنفى. فبسقوط فرنسا في يد النازية، إثناء الحرب الثانية، يجد سانت اكزوربي نفسه منفياً وغريباً في أميركا الشمالية، بعيداً من باريس والمغرب الإسباني الذي عاش فيه وقتاً طويلاً. وفي خضم تلك التجربة، التي لن يتعافى منها أبداً، يكتب عن "الأمير الصغير" الهابط من الفضاء ورفيقه المؤقت الطيار العالق في الصحارى.

تخضع الترجمة الأدبية، هي أيضاً، نصوصها لذلك الاغتراب، في تهجيرها من أراضي لغة إلى لغات أخرى، ليظل النص المترجم في حالة من النفي الدائم، متقلقلاً وغريباً وفي اشتياق دائم للعودة. هكذا يبدو "الأمير الصغير" نصاً مثالياً للترجمة والنفي إلى لغات غريبة في وطنها وعلى ألسنة أصحابها أحياناً كثيرة، ولمنح فرص لتلك اللغات الهامشية والمقموعة حتى تكتسب الاعتراف بربط نفسها باللغات الكبرى وآدابها، بالضبط مثل الفلكي التركي الذي لا تنال اكتشافاته الاحترام إلا بعد أن يرتدى ملابس أوروبية.  

(الأمير الصغير، أنطوان دو سانت اكزوبري، ترجمة: يوسف غصوب)
 

جديد الأخبار