
ما بين 1870 إلى 1945 خاضت ألمانيا وفرنسا حروبا متعددة وهي حرب بروسيا والعالمية الأولى والثانية تعد ضمن الأبشع والأقسى في تاريخ الحروب. وهذا التراكم من المآسي والحقد التاريخي وملايين القتلى لم يمنع البلدين من بناء ائتلاف ثنائي بينهما يكاد يصل إلى الكونفدرالية وزعامة ائتلاف جماعي رائد المتمثل في الاتحاد الأوروبي. في المقابل، لم تحدث أي حرب حقيقية بين المغرب والجزائر بل يتقاسم البلدان الكثير من القواسم التاريخية والدينية، ولكنهما تحولا إلى مثال صارخ للعداء بين الجيران في العلاقات الدولية خلال العقود الأخيرة، وهذا العداء مرشح للاستمرار.
**
العداء بين الجيران
وفي العلاقات الدولية، يجري الحديث عن العداء بين الجيران لأسباب متعددة وهنا تحضر حالتان الأولى وهي العداء القائم بين كوريا الشمالية والجنوبية وناتج عن حرب ضروس خلال الخمسينات وسندها التطاحن الإيديولوجي وتورطت فيها دول كثيرة منها الولايات المتحدة، ثم حالة العداء بين المغرب والجزائر القائمة على معطيات مبهمة، لا هي تملك مواصفات الصراع الإقليمي ولا هي تستند إلى الصراع الإيديولوجي الواضح، وتفتقر لصراع له جذور تاريخية واضحة مثل حالة تركيا واليونان.
وعليه، لا يمكن البحث عن جذور تاريخية عميقة للصراع المغربي-الجزائري، فرغم القرب الجغرافي بينهما إلا أن التطورات التاريخية جعلت كل طرف يتطور في سياق معين ليس بالضرورة عدائيا. فقد حافظ المغرب على كيانه السياسي-الترابي لأنه لم يسقط في قبضة الدولة العثمانية وسقط متأخرا في يد الاستعمار الذي حافظ على مؤسساته ومنها المؤسسة الملكية وبقي لفترة لم تتعد الخمسة عقود. بينما عانت الجزائر كثيرا، فقد خضعت للهيمنة العثمانية لفترة طويلة ثم سقطت في قبضة الاستعمار الفرنسي سنة 1832. وعرقل كل من التواجد الفرنسي والعثماني بناء شخصية تاريخية قوية للجزائر وحرمها من لعب دور هام في شمال أفريقيا خلال القرون الماضية، وهذا يفسر إصرارها على استقلال قرارها السياسي كتعويض عن الماضي. وهكذا، فالصراع التاريخي بين المغرب والجزائر سيبدأ مع استقلال البلدين عن الاستعمار الفرنسي، المغرب سنة 1956 والجزائر سنة 1962 لكنه يبقى مبهم الأسس.
في الوقت ذاته، لا يمكن الحديث عن صراع إيديولوجي بين البلدين رغم دعم كل طرف تاريخيا لمعسكر معين. فقد ارتبط المغرب بالغرب سياسيا وعسكريا واقتصاديا مع الحفاظ على مسافة في قضايا معينة بحكم انتمائه الأفريقي والعربي، بينما ارتبطت الجزائر بالاتحاد السوفييتي سابقا ثم روسيا لاحقا، وهو ارتباط سياسي وعسكري محدود دون الاقتصادي. إذ لا يطبق المغرب النظام الليبرالي بمفهومه الحقيقي، ولم تكن الجزائر دولة اشتراكية نهائيا، أي لا توجد منافسة لنموذجين مثل الحال بين كوريا الشمالية والجنوبية.
**
جذور الصراع
والصراع بين المغرب والجزائر يقود إلى سؤالين، وهما: ما هي جذور الصراع الحقيقي بينهما؟ ثم هل يوجد صراع حقيقي بينهما للتحول إلى دولة إقليمية تحدد مسار شمال أفريقيا؟
اعتاد بعض المؤرخين تفسير العداء التاريخي بين البلدين بحرب الرمال التي جرت سنة1963 بينهما، فمن جهة، يقولون إن المغاربة اكتشفوا أطماع الجزائر بالاحتفاظ بمناطق مغربية منحها الاستعمار الفرنسي للجزائريين ويستندون إلى مساحة الدولة المغربية عير التاريخ التي شملت أجزاء من شمال أفريقيا وغربها. ومن جهة أخرى، يعتبر الجزائريون أنهم تعرضوا لطعنة غادرة من جارهم وهم الذين حصلوا على الاستقلال سوى سنة واحدة، وكانوا يعملون على تعزيز بنيات الدولة وينتقدون عدم قبوله بالخرائط السياسية الحديثة ومنها احترام الحدود التي أقامها الاستعمار.
وتعد حرب الرمال سنة 1963 جرحا غائرا في جيل الستينات وحتى التسعينات، لكنها لم يعد لها حضور قوي في مخيال الشعبين المغربي والجزائري سوى في كتابات بعض الإعلاميين وتصريحات بعض السياسيين للبحث عن مبررات العداء. فهي حرب لم تخلف مآس مثل القتلى بعشرات الآلاف، فقد وقعت في منطقة صحراوية وهي تندوف، ولم تغير من خريطة سياسية، أي الحدود. ولا ترقى هذه الحرب إلى العائق التاريخي، ويجب العثور على سبب آخر يسمم العلاقات بين البلدين، ويتعلق الأمر بنزاع الصحراء. منذ بداية السبعينات وحتى بداية العشرينات من القرن الجاري يعد نزاع الصحراء السبب الأبرز في الأزمة الممتدة عبر قرابة خمسة عقود. وتعتقد الجزائر في عدالة قضية جبهة البوليساريو التي تنازع المغرب السيادة على الصحراء، وتوفر الجزائر لهذه الحركة السلاح والدعم الدبلوماسي اللامنتهي. وجعلت الجزائر من هذا الملف قضيتها الوطنية الأولى. ولا تعتبر نفسها تعتدي على حقوق المغرب بل تدافع عن تصفية الاستعمار. ومن جانبه، يرى المغرب تأييد الجزائر للبوليساريو هو عمل يهدف إلى إضعافه بإنشاء كيان جديد يجعل منه دولة ذات مساحة صغيرة وموارد محدودة للغاية لتنفرد الجزائر بزعامة المنطقة وتضمن الوصول إلى الواجهة الأطلسية عبر إنشاء دولة جديدة لتعزيز نفوذها الجيوسياسي. وحاول البلدان وخاصة المغرب تطوير العلاقات بمعزل عن نزاع الصحراء، وفشلت كل المحاولات بحكم الاصطدام بين الطرفين في الهيئات الدولية ومنها الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في السبعينات ومؤخرا بعد عودة المغرب إليه. ويوجد تنافس حقيقي بين البلدين لزعامة شمال أفريقيا والتحول إلى قوة إقليمية تحدد مستقبل المنطقة. ووفق مفهوم القوة الإقليمية، لا تتوفر في أي دولة من الدولتين المعايير الرئيسية لتحوز هذه الصفة. ومن أهم هذه المعايير التوفر على القوة الكافية لتحديد الأجندة الأمنية للمنطقة والحسم فيها، وهذا يتطلب مسبقا الارتكاز على قوة اقتصادية ثم إيديولوجية وسياسية متينة علاوة على مستوى متوسط نحو متقدم في الصناعة العسكرية. وإذا كانت دول مثل اسبانيا وإيطاليا لا تعتبران قوتين إقليميتين، فهل يمكن الحديث عن المغرب والجزائر كقوتين إقليميتين؟
يعمل البلدان على التحول إلى دولة قوية، وقد نجحا حتى الآن في المجال العسكري بالانتقال من جيوش ضعيفة وتقليدية إلى جيوش تمتلك معدات متطورة للغاية تقلق حتى دول جنوب أوروبا، لكنهما لم ينجحا نهائيا في الصناعة العسكرية. وتبقى الأخيرة شرطا رئيسيا لحيازة صفة الدولة الإقليمية مثلما هو الشأن بالنسبة لقوى إقليمية مثل تركيا وجنوب أفريقيا وأستراليا. في الوقت ذاته، لا يستطيع أي بلد من البلدين فرض تصوراته وتنفيذها في القضايا الأمنية الإقليمية التي تمس أمنهما مثل نزاعات الساحل وليبيا ومؤخرا تونس. ولم يتحول أي بلد إلى قطب اقتصادي لدول المنطقة.
**
الحدود المغلقة عنوان الأزمة
ويبقى أهم مظهر من الأزمة الثنائية بين البلدين هو إغلاق الحدود البرية ثم التسابق نحو التسلح. وعلاقة بالعامل الأول، بقيت الحدود مغلقة زمنيا بين البلدين منذ استقلالهما أكثر منها مفتوحة. ويعود الإغلاق الأخير إلى سنة 1994. وفي صيف تلك السنة ووسط أجواء إقليمية متوترة للغاية بسبب الحرب في الجزائر بين الفصائل الإرهابية والجيش، تعرض فندق في مدينة مراكش وكان اسمه «أسني» لعملية إرهابية خلفت قتلى وجرحى في صفوف مغاربة وسياح أجانب. وقام المغرب فورا بفرض التأشيرة على الجزائريين، وكان عملا متسرعا لأن نسبة هامة من المهاجرين الجزائريين في أوروبا كانت تقصد بلدها عبر إسبانيا ثم المغرب ولاحقا الأراضي الجزائرية. وردت الجزائر بإغلاق الحدود البرية ثم اشتراطها اعتذارا مغربيا لإعادة فتحها. والمثير، يصمد إغلاق الحدود في وجه التطورات والتغيرات الإقليمية والدولية. فمن جهة، رحل عن هذا العالم السياسيون الذين كانوا وراء أزمة الحدود، في الجانب المغربي والجزائري بحكم مرور 27 سنة عن الحادث. ومن جهة أخرى، شهد العالم منعطفات تاريخية مثل اعتداءات 11 ايلول/سبتمبر وحرب العراق والربيع العربي وبزوغ قوة الصين وانتقال العالم إلى الإنترنت.
**
ويستمر التوتر
عندما رحل الملك الحسن الثاني، اعتقد الكثير من المحللين والخبراء باحتمال بداية مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، لاسيما وأن الجزائر بدورها شهدت مجيئ رئيس جديد وهو عبد العزيز بوتفليقة. لكن التغيير في الشخصيات في هرم السلطة لم يترتب عنه أي تغيير في تحسن العلاقات رغم سيادة الحوار في لحظات معينة وكانت قصيرة، حيث لم يصمد أمام التنافس الإقليمي، حيث ترغب كل دولة أن تكون المخاطب الرئيسي للدول الكبرى والاتحاد الأوروبي من جهة، ثم رغبة أطراف معينة في البلدين من تشجيع استمرار الأزمة وتغذي الهجمات الإعلامية المتبادلة باستمرار. ولم يحمل مجيء الرئيس عبد المجيد تبون نفسا جديدا في العلاقات الثنائية بل مزيدا من التطرف في الأزمة.
وجاءت دعوات الحوار ونداءات فتح الحدود من المغرب أكثر من الجزائر، وآخرها تلك الواردة في خطاب الملك محمد السادس الأسبوع الماضي بمناسبة عيد العرش، داعيا إلى تجاوز أحقاد الماضي وبدء صفحة جديدة. وكانت دعوته الأخيرة أكثر إلحاحا ووضوحا مقارنة من سابقاتها. وكان منتظرا فشل دعوة الملك نظرا للسياق الحالي للعلاقات ومنها: فرضية تجسس المغرب على الجزائر ببرنامج بيغاسوس الذي تنتجه شركة «إن إس أو» الإسرائيلية، ثم اتهام الجزائر للمغرب بالتنسيق مع دول غربية وإسرائيل لإضعافها، ولعل الأسوأ هو اعتبار الجيش المغرب بلدا عدوا رئيسيا. لكن ما لم يكن منتظرا هو العنف الذي تعاملت به الطبقة السياسية سواء الحاكمة أو الحزبية ثم الإعلام مع المقترح المغربي بفتح الحدود، تعامل يفاقم العداء بين البلدين إلى مستويات خطيرة أكثر من السابق.
واعتمادا على تاريخ العلاقات بين البلدين منذ الاستقلال إلى الوقت الراهن، لا يمكن الحديث عن انفراج في العلاقات بين البلدين بل ربما تعاظم المشاكل بينهما لسببين، الأول وهو تبلور المغرب بشكل أكبر كعدو حقيقي في المخيال الجزائري والعكس صحيح للجزائر في المخيال المغربي لاسيما في انخراط بعض مكونات الإعلام والأحزاب في تغذية العداء وغياب شخصيات حكيمة ترأب الصدع بين الطرفين. ويتجلى الثاني في السباق نحو التحول إلى دولة إقليمية وتزامن هذا مع انفجار أزمات كبيرة في شمال وغرب أفريقيا ومنها منطقة الساحل ثم عودة الحرب الباردة المتعددة الأطراف بين الولايات المتحدة والغرب في مواجهة الصين وروسيا.
وتبقى الميزة الإيجابية حتى الآن، وفق الكثير من المحللين، للعلاقات المغربية بين المغرب والجزائر هو استمرار العداء المتحكم فيه من دون انفلاته نحو المواجهة السياسية العنيفة وإلى العسكرية.
***
مدريد-»القدس العربي»: