تبدو موريتانيا على مشارف حقبة جديدة قد تتّسم بالبحبوحة، بعد زمن طويل عاشته على موارد مالية شحيحة جاءت من القطاع الزراعي التقليدي، ومن الصيد البحري الوفير، ومن كميات متواضعة من الذهب والحديد، أدخلت على البلاد عملات صعبة هي بأمسّ الحاجة إليها لتسيير شؤون الدولة، ولتغطية تكاليف استيراد المواد المتعددة التي تحتاج إليها موريتانيا، لاسيما السلع الغذائية والآلات الصناعية والكهربائية غير المتوافرة في الداخل.
استقرار موريتانيا السياسي والأمني محل حسد الجيران، فهي لا تعيش قلقاً أمنياً، أو اضطرابات سياسية كما هو عليه الحال عند غالبية جيرانها في دول شمال وغرب إفريقيا، على الرغم من مساحتها الجغرافية المترامية على أكثر من مليون كلم مربع، وتنوع الانتماءات القبلية لسكانها ال5 ملايين، وهي تمارس اعتدالاً مشهوداً في تعاطيها مع أشقائها من الدول العربية، وليست جزءاً من أي محور إقليمي أو دولي، على الرغم من تعرضها للكثير من المغريات أو الضغوط في هذا السياق.
ما استجد في الفترة القريبة الماضية على الساحة الموريتانية؛ يبشر بمستقبل واعد، فعمليات التنقيب التي تقوم بها شركة «Aura Energy» الأسترالية في حقل «تيرس» شمالي البلاد، أكدت وجود كميات تجارية كبيرة من مادة اليورانيوم، قد تتجاوز 57 مليون رطل إنجليزي، والعالم اليوم بأمسّ الحاجة إلى مثل هذه المادة المشعّة والتي تعتبر أساسية للمفاعلات النووية، لاسيما منها التي تستخدم لتوليد الطاقة الكهربائية. وعدد من الدول المتقدمة عادت بقوة إلى الاعتماد على هذه المفاعلات لتوليد الطاقة، بعد الأزمة التي فرضتها الحرب الأوكرانية على أسواق النفط والغاز. وعلى سبيل المثال، فإن ألمانيا التي كانت قد قررت الاستغناء عن هذه المفاعلات، عادت إلى تفعيلها من جديد بسبب اضطراب إمدادات الغاز الروسي إلى أسواقها.
وقد اكتشف المستثمرون الأستراليون في حقل «تيرس» الموريتاني كميات وازنة من مادة «الفاناديوم» وهو معدن ثمين يستخدم على وجه الخصوص في صناعة البطاريات التي تخزّن الطاقة الكهربائية، وهي سلعة تحتاج إليها الأسواق الدولية حالياً، وصناعتها في نمو متزايد، خصوصاً بعد أن تضاعفت عمليات توليد الطاقة بواسطة الألواح الشمسية والمراوح الهوائية. و«الفاناديوم» غالي الثمن، وتعمل الحكومة الموريتانية على تصحيح العقد الموقع مع الشركة الأسترالية، لكي يلحظ حصة الدولة من عائدات هذه المادة، لأن العقد الأول الذي أبرم عام 2019، أعطى موريتانيا 15في المئة من قيمة المستخرجات من اليورانيوم، من دون أن يذكر أي شيء عن المواد النافعة الأخرى في الحقل.
الدراسات الفنية تؤكد بدء الاستفادة من عائدات تصدير اليورانيوم والفاناديوم في مطلع عام 2024، وهي مدة زمنية قصيرة، وستؤثر منذ اليوم في تحسين تصنيف موريتانيا في الأسواق الاستثمارية الدولية. ويزيد من هذه الحوافز الإيجابية، معلومات متداولة عن وجود حقول إضافية تحتوي على هذه المواد في موريتانيا، إضافة إلى حقل «تيرس» قيد الاستثمار.
والعامل الإضافي في سياق المؤشرات الإيجابية الجديدة في موريتانيا، هو التوقيع في العاصمة نواكشوط على عقد للتنقيب عن الغاز الطبيعي واستثماره بين وزير البترول والمعادن والطاقة الموريتاني عبد السلام ولد محمد صالح، وبين ممثلين عن شركة BP البريطانية وشركة Kosmos الأمريكية. ويتضمن الاتفاق وضع بنية تحتية لاستخراج الغاز وتصديره من حقل «بير إيل» والذي يقدر مخزونه ب 80 تريليون قدم مكعبة، وهي كميات تجارية معتبرة، يمكنها وضع موريتانيا على خارطة الدول المصدرة للغاز الطبيعي.
علماً بأن العقد لحظ استفادة الحكومة الموريتانية بما يوازي 29 في المئة من منتوجات الحقل، من دون أن تتكبد أية مصاريف على عمليات التنقيب والاستخراج.
هذه المعطيات المستجدة سترفع من منسوب الدخل القومي الموريتاني في السنوات القليلة القادمة، وستُحسّن مستوى معيشة السكان بطبيعة الحال، ذلك أن موريتانيا تعتبر من الدول الفقيرة، ودخلها القومي لا يتجاوز 20 مليار دولار، وهو رقم متواضع قياساً لعدد سكان البلاد والمساحة الجغرافية الكبيرة للدولة.
في المقابل، فإن شهية الدول الكبرى بالتدخل في الشؤون الموريتانية ستزداد من جراء المؤشرات الاقتصادية الواعدة، وهو ما سيحمّلها عبء الاختيار بين الطموحات الاستثمارية للشركات الدولية المتخصصة. ومن المعروف أن هناك تنافساً صينياً أمريكياً متعاظماً على الساحة الإفريقية، بينما لروسيا ولفرنسا طموحات متعارضة أيضاً في أكثر من دولة. وما جرى في مالي الدولة الجارة والقريبة من موريتانيا يمكن أن يكون مثالاً على بعض التنافس القائم.