“العبودية في موريتانيا” تاريخ تليد وحاضر متأرجح ومستقبل غامض

اثنين, 21/11/2022 - 08:09

لم تكن تحفظات رئيس حركة إيرا النائب المعارض بيرام الداه أعبيد ، حول تضمين ملف العبودية الشائك أجندة الحوار الوطني المرتقب مفاجئة، فقد دأب الرجل على انتقاد الأنظمة والحكومات الموريتانية المتعاقبة لجهة أنها عاجزة عن القيام بأية خطوات جدِّية إزاء هذا الملف شديد التعقيد.

وفيما يصنف مراقبون جمهورية موريتانيا، الواقعة شمال غرب إفريقيا، بآخر معاقل العبودية في العالم، لم تحقق حكوماتها المتعاقبة أي تقدمٍ يذكر في هذا الصدد، حيث باءت جميع الجهود الرسمية الرامية إلى القضاء على هذه الظاهرة بالفشل.
 

 

 

 عبودية متوارثة

ووفقاً لدراسةٍ حديثة للباحث بجامعة جورج تاون في العاصمة الأمريكية واشنطن، الدكتور ستيفن ج. كينغ، بعنوان «إنهاء العبودية المتوارثة في موريتانيا: البِيضان البيض والعبيد السود »، صادرة عن مبادرة الإصلاح العربي في عام 2021، فإنّ موريتانيا تُسجِّل أعلى نسبة من العبودية المتوارثة مقارنة بأي بلدٍ آخر في العالم، فمن بين عدد سكانها البالغ نحو 4،75 مليون نسمة، يُقدِّر “مؤشر الرق العالمي” أن هناك 90 ألف شخص يعيشون في ظلِّ العبودية المتوارثة في البلاد.

وعلى أرض الواقع، يُعد هذا شكلاً من أشكال العبودية القائمة على أساس النسب، التي تعامل البشر على أنهم ممتلكات، مع فرض هذه الممارسات بالقوة. فضلاً عن أن ما يقرب من 500 ألف شخص آخرين يعيشون تحت وطأة العبودية الحديثة أو “الأوضاع الشبيهة بالعبودية”.

بيرام ولد ألداه ولد أعبيد؛ رئيس حركة إيرا، وأبرز الناشطين الموريتانيين في مكافحة العبودية- وكالات

وعلى الرغم من المحاولات الرسمية المتعددة للقضاء عليها، فلا تزال العبودية المتوارثة ذات النزعة العنصرية قائمة في موريتانيا، فقد أعلنت الإدارة الاستعمارية الفرنسية إنهاء العبودية عام 1905، لكنها لم تُدخل هذا القرار حيز التنفيذ قط. ومع عبارة “المساواة للجميع”، أُلغيت العبودية بموجب الدستور عند الاستقلال عام 1960.

وفي عام 1981، أصبحت موريتانيا، بموجب مرسومٍ رئاسي، آخر بلد في العالم يلغي العبودية. إلَّا أنّه لم تصدر أي قوانين جنائية لفرض هذا الحظر. واستجابة للضغوط الدولية، أصدرت الحكومة الموريتانية عام 2007 قانوناً يسمح بمقاضاة مالكي العبيد. بيد أن هذا القانون نادراً ما يتم تطبيقه. بل إن عدداً من النشطاء الحقوقيين المناهضين للعبودية تعرَّضوا للملاحقة القضائية أكثر بكثير من “سادة العبيد” أنفسهم، فضلاً عن ذلك، تُقدم تعويضات لتجار العبيد عن تحرير المستعبدين، بينما لا يُقدم لضحايا هذه الممارسات الوحشية أي شيء. ”

وفي عام 2015، أنشأت الحكومة الموريتانية -استجابةً لضغوط التعبئة الدولية وبعض الضغوط المحلية- ثلاث محاكم خاصة لمحاكمة ممارسات العبودية؛ ولكنها حتى الآن لم تُحاكِم سوى حالات قليلة للغاية.

 

الفقه المالكي إذ يبرر!

 

الباحث والمحلل السياسي المهتم بالشؤون الإفريقية، عبد الله أحمد جرمة، قال لـ”كيوبوست”: إنّ العبودية في موريتانيا تتسم بنزعة عنصرية أيضاً، حيث تفرض القومية الحسانية (العربية الأمازيغية) سيطرة كاملة على مفاصل الدولة والاقتصاد، رغم أنها تمثل نحو 30% فقط من مُجمل سكان موريتانيا، فيما تبلغ فئة الحراطين وهم العبيد المحررون الذين يتحدثون العربية الحسانية أيضاً؛ نحو 40%، وهنا تجدر الإشارة إلى فئة أخرى من سود موريتانيا لم تستعبد قط، ولا تزال تحافظ على هويتها ولغاتها الأصيلة، ومنهم قوميات (الهالبولار، والفلاني، والسُّنِنكي، والوولوف والبامبارا)، وهؤلاء يمثلون لوحدهم نحو 30% من سكان البلاد.

ويعزي جرمة، استمرار ممارسة العبودية في هذا البلد الإفريقي، وعجز حكوماته المُتعاقبة عن القضاء عليها إلى عدم توفر ما يكفي من الإرادة لتنفيذ القوانين التي تُحرّم الرق، بصرامة وجدّية، وأنّ الإفلات من العقاب هو ما يُشجع البعض بالاستمرار في ممارسة مثل هذه الانتهاكات الجسيمة، هذا بالإضافة إلى التفسير الديني الذي قدمته المؤسسات الدينية الرسمية التي يهيمن عليها فقهاء من (البيضان) لمسألة الرق، بناءً على الفقه المالكي، ولعل ذلك ما جعل بيرام ولد ألداه ولد أعبيد، زعيم حركة إيرا المناهضة للعبودية وأتباعه يُقدمون على حرق بعض كتب الفقه المالكي علانية عام 2012، احتجاجاً على تبريرها استعباد الآخرين، والإيحاء للعديد من السود المتدينين بالاعتقاد أنّ تخليهم عن سادتهم يُعتبر خطيئة وجريرة دينية لا ينبغي اِقْتِرَافُها. 

 

عجز حكومي وتواطؤ مجتمعي

إلَّا أنّ جرمة، عاد لينوه مُجدداً إلى أنّ السلطات الموريتانية تبذل جهوداً ملموسة في مُحاربة العبودية، لكن هذا لا يعفي من وصفها بالتقاعس في تنفيذ القوانين التي شرّعتها في هذا الخصوص، وأنّ عليها أن تُجابه العوائق التي تحول دون تنفيذها بقوة وعزيمة، كما عليها معالجة العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية المسؤولة عن استمرار الظاهرة؛ من خلال تطبيق عقوبات رادعة بحق الضالعين في هذا الخِضّم والمبررين لاستمراره، ومحاصرتهم اجتماعياً واقتصادياً وفضحهم، بمن فيهم بعض فقهاء المذهب المالكي الذين يروجون لاستمرار العبودية تحت غطاء الإسلام، على أن يحدث ذلك بالترافق مع حزمة إصلاحات في قوانين ملكية الأراضي، واتاحتها للطبقات المُسترقة ونشر التعليم والبرامج التدريبية المهنية وسطها، حتى يتمكن أفرادها من ايجاد مصادر تجعلهم يتمتعون بنوعٍ من الاستقلال الاقتصادي.

 

الدولة تعرقل إنفاذ القوانين

وفي السياق نفسه، أشار تقريرٌ صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان  والمجموعة الدولية لحقوق الأقليّات آم ار جي تحت عنوان “إنفاذ تشريعات مكافحة الرق في موريتانيا: الفشل المستمر لنظام العدالة في الوقاية والحماية والمعاقبة” إلى أنه بالرغم من أن موريتانيا أصبحت منذ عام 1981 آخر بلد في العالم يلغي الرق رسمياً، فإن هذه الممارسة لا تزال قائمة على أساس النسب إلى يومنا هذا، ويقع عبئها على أبناء فئة الحراطين، من أبناء العبيد السابقين، إذ ما يزال معظمهم يرزحون تحت العبودية حتى اليوم باعتبارهم ملكاً لأسيادهم، حيث يعيشون تحت سيطرتهم المباشرة، ولا يحصلون على أي أجور نظير ما يؤدونه من أعمال، إذ يعمل الرجال في رعي حيوانات أو زراعة أراضي السادة، فيما تتولى النساء الأعمال المنزلية، وجلب الماء، وجمع حطب الطبخ، وإرضاع الأطفال ورعايتهم.

 

واتهم التقرير الإدارة والشرطة والنيابة والقضاء بعرقلة تنفيذ قانون حظر الاسترقاق الصادر عن الحكومة الموريتانية عام 2007، والذي يتيح محاكمة من تثبت إدانتهم من مُلّاك العبيد تحت المادة (17) بالسجن لمدة تتراوح بين 5 و10 سنوات، والغرامة ما بين 500 ألف إلى مليون أوقية موريتانية، أي ما يعادل ما بين (1600 إلى 3200) دولار أمريكي.

 

وشدّد التقرير على أنّ الحكومة نفسها، وبغضِّ النظر عن فشلها في إنفاذ القانون، فقد فشلت أيضاً في العمل بشكلٍ إيجابي وسط المجتمع المدني من أجل القضاء على هذه الظاهرة، وعوضاً عن ذلك استمرت في قمع أصوات دعاة مكافحة العبودية بقوة ودون هوادة، مثل منظمتّى، نجدة العبيد والمبادرة من أجل انبعاث الحركة الانعتاقية المعروف اختصاراً بـ(إيرا)

 

من جهتها ظلت مبادرة (إيرا) تصف القوانين الموريتانية بالمتناقضة، مشيرة إلى الدستور المُستند إلى نصوص المذهب المالكي المكتوبة بين القرنين التاسع والسادس عشر الميلاديين، التي تضفي الشرعية على ممارسة العبودية؛ إذ تُقرر أن العرق الأسود أدنى منزلة، وتسمح بامتلاك السود، وإخصاء رجالهم واغتصاب نسائهم، إن هذه الكتب الدينية المنسوبة إلى الفقه المالكي ما تزال تُستخدم حالياً في دورات تدريب الأئمة وقوات الشرطة والقضاة، وما لم يتم إلغاؤها فلن تنتهي العبودية. عبيد النُخب

 

في معرض حديثة إلى “كيوبوست” يتساءَل الباحث في الشؤون الإفريقية؛ فتحي عثمان، كيف يُمكن إنفاذ القوانين إذ كان جلُّ النخب الموريتانية؛ من موظفين حكوميين ودبلوماسيين ووزراء ورؤساء بلديات وولاة وأعضاء بمجلس الشيوخ وقضاة وقادة دينيين، يمتلكون عبيداً؟

ففي هذه الحالة ستظل القوانين محض حبر على ورق، ولن تكون لها فعالية وقيمة لها على الأرض، ما لم تُحرر هذه الطبقة عبيدها، وهذا لن يأتي بقوة القانون وحده، بل بقوة الحكومة وعدم تسامحها في هذا الأمر، وبتطمينها العبيد أنفسهم بأنها ستوفر لهم سبل الحياة الكريمة إذا ما تحرروا عن سادتهم. !

وهنا لا تفوتني، يستطرد عثمان، الإشارة إلى سيطرة نُخب (البيضان) على مفاصل الدولة الموريتانية، وذلك من أجل تعزيز مصالحهم عبر استمرار هذه الظاهرة، وما تزال هذه النخبة تمارس تمييزاً واضحاً على السود فيما يتعلق بالتعليم والفرص الاقتصادية، بوصفهما السبيلين الوحيدين لتجاوز ميراث العبودية.

وتتبنى هذه النخب مبدأ الإنكار المستمر كلما ارتفع صوت الطبقات المُستعبدة من أجل نيل حقوقها وتحررها الكامل، وهنا يجب علينا القول إن هناك عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية ينبغي القضاء عليها حتى تنتهي العبودية، مع توفير فرص التعليم والعمل، وسبل العيش الكريم، والضمانات الأمنية والحماية القانونية للمتضررين بشكل مباشر من العبودية، سواء المحررين أو الذين لا يزالوا تحت الاسترقاق.
-------------
كيوبوست –

 

عبد الجليل سُليمان

الاحد 20 نونبر 

الهدهد

جديد الأخبار