سأفكر مليا ثم.. أرفض
تاريخ النشر:05.12.2018 | 17:45 GMT | مجتمع
Youtube
رانيا يوسف
A+AA-
انسخ الرابط
6629
"يجب على روسيا إعادة إحياء اللجان الفنية كي يحصل المتلقي على مُنتج خضع لتقييم محترفين".
بهذه الكلمات تكلم الفنان الروسي، ميخائيل بويارسكي، عن المستوى المتدني، الذي بلغه حال الفن في بلده روسيا، متحدثا عن "موسيقى رديئة، كلمات نابية، مسرحيات رخيصة"، وداعيا إلى إعمال مقص الرقابة، حفاظا على مشاعر الذوق العام، وتفاديا لما من شانه أن يخدش الحياء علنا.
تبدو هذه الدعوة الهادفة إلى الحد من تغلغل الإسفاف في الفن، وفي صفوف الفنانين، متناغمة مع نمط الحياة الذي تفرضه مدينة بطرسبورغ (لينينغراد سابقا) حيث وُلد بويارسكي، إذ تُعرّف هذه المدينة بأنها العاصمة الشمالية للبلاد.. علاوة على وصفها بعاصمة روسيا الثقافية.
إقرأ المزيد
بطرسبورغ تحصل على جائزة "الأوسكار"!
جاءت هذه الدعوة بعد أيام من نقاش دار في برنامج حواري، حول المستوى الهابط للكثير من الأعمال الفنية، سواء في مجال الأغنية (من حيث الكلمة أو الفيديو كليب)، أو في مجال السينما، علاوة على سلوكيات بعض الفنانين المثيرة للجدل، بهدف تكثيف الأضواء المسلطة عليهم، كي يبقوا في بؤرة الضوء.
وفيما أبدى عدد ممن شارك في هذا النقاش استياءهم إزاء الحال السائد، أشار آخرون، مستاؤون أيضا، إلى أن الأمر ليس جديدا، فمرحلة التسعينات من القرن الماضي شهدت حالة مماثلة.
ومع أن هذا الرأي صائب، إلا أنه تجدر الإشارة هنا إلى أن حقبة التسعينات، المُشار إليها، كانت مرحلة انفتاح على كل ما هو جديد في روسيا الحديثة، فبدت هذه الصورة "المنفلتة" متناغمة مع مناخ الحرية الذي لامس حد الإباحية، علاوة على أن الظروف الصعبة آنذاك، أرغمت معظم المواطنين الروس على الانشغال بتوفير لقمة العيش، فلم يكن الاهتمام بتداعيات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وطول فستان هذه المغنية أو قصر بلوزتها ضمن الأولويات.
خير اللبس ما قل ودل!
الفستان. يبدو أن هذه الكلمة باتت تحمل في طياتها أكثر من مجرد معنى لقطعة قماش، إذ أنه بات وسيلة للكشف عن عقيدة أحيانا، أو عن مايوه في أحيان أخرى. فبينما تستغل وزيرة الثقافة الإسرائيلية، ميري ريغيف، فستانا محتشما ذو دلالة، للتأكيد على يهودية مدينة القدس المحتلة، تظهر الممثلة المصرية، رانيا يوسف، في فستان خادش للحياء، وذلك على السجادة الحمراء في مهرجان القاهرة السينمائي بنسخته الـ40.. ولتثير الجدل حول الفستان وما فيه.
أعتقد أن رانيا يوسف كانت تدرك ما تفعله، وتدرك أن تداعياته لن تتجاوز تقديم اعتذار، ربما صاغت كلماته أثناء ارتداءها الفستان، الذي يُظهر أكثر مما يخفي، وصحتين على رانيا يوسف، بما أن هذه رغبتها، ربما ظنا منها أنها الأنثى الوحيدة على كوكب الذكور، وألف صحتين على كل من متّع ناظريه، مع تحفظي الشديد إزاء كل من اعترض، بعد أن مارس عادة اختلاس النظر بالسر، ثم انضمّ إلى المعترضين على هذا المشهد "اللاأخلاقي".. وراح يقنع نفسه بأنه أب الأخلاق الحميدة وابن عم الفضيلة!
لكن أين هؤلاء من هذا الحكيم الطيب؟
في ظل كل هذه الجلبة، هل يجب أن تتدخل الدولة بإعمال مقصها الرقابي، لمنع أغنية، فيلم، رواية.. أو لتحديد سلوك فنان أو فنانة؟ سأفكر قليلا قبل أن أقول لا.
كل انسان حر. ولكي لا تكون هذه كلمة حق يُراد بها باطل، لا بد من التذكير بالمقولة الشهيرة.. "حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين". ولكن ألا يجب تحديد من هم هؤلاء "الآخرون" أولا؟ إنهم منقسمون. فهناك "آخرون" يرفضون مشاهد مثيرة للغرائز كهذه ويثيرون زوابع لا تهدأ بسببها، وذلك في مقابل "آخرين" يريدون، يريدون جدا، مشاهدة رانيا يوسف وغيرها، في فساتين قصيرة.. والأفضل طويلة ولكن شفافة.
فستان مارلين مونرو طار لفئة محددة من "الآخرين" فما شأن غيرهم من "الآخرين" بها؟
تفاعلت الجماهير مع فستان رانيا يوسف، وتفاعلت جهات رسمية مسؤولة، مثل نقابة المهن التمثيلية في مصر، التي أصدرت بيانا حاولت من خلاله إرضاء الجميع، لينتهي الأمر بتقديم الفنانة اعتذارها، ربما تحت ضغط الظرف، كما نقرأ في خبر بعنوان.. "رانيا يوسف تواجه حكما بالسجن لمدة 5 سنوات بسبب فستانها الساخن".
في الحقيقة أن أكثر من يؤخذ على رانيا يوسف في قضية الرأي العام هذه، ليس ارتداؤها الفستان الشفاف، بل هو تقديمها الاعتذار. اعتذار كهذا يبدو أنه تجسيد لحالة تناقض في نزول المشاهير على رغبات الجماهير، فتراهم يستثيرون العامة بتصرفات مثيرة، يُفترض أنهم هم يدركون مسبقا أنها كذلك، ثم سرعان ما يتهافتون على تقديم الاعتذار، يُفترض أيضا أنهم وجمهورهم يدركون أنه اعتذار لرفع العتب لا أكثر، والله أعلم، وكأن لسان حالها يقول: "لا يعجبكم شكلي؟ الله يهنيكم باعتذار شكلي!"
إقرأ المزيد
علماء: لا تجبروا أطفالكم على الاعتذار!
"المهم لـ(---) أن يكون الاعتذار صادقا ومن دون ضغط. لذلك ينصح العلماء بمنح (---) فرصة للهدوء ليشعروا بالعاطفة تجاه من تضرر من سلوكهم، لتظهر عندهم الرغبة في الاعتذار طوعا لتصحيح الأمر". هذا ما جاء في خبر نُشر مؤخرا على موقع RT، حول نتيجة دراسة عن إجبار الأطفال على الاعتذار، وكلمة "أطفال" هنا هي المحذوفة مما بين الأقواس أعلاه. ولكن، هل سيتغير المعنى لو وضعنا بين هذه الأقواس كلمة "فنانين" أو اسم رانيا يوسف.. أو اسم أي منا؟
هل هو شغف بالنفاق؟
لقد كان الجمهور متعطشا لانتشار صور الأميرة ديانا مع دودي الفايد في الإعلام.. وكان الجمهور أيضا هو من وجه سهامه النارية للإعلام، الذي أدى "تطفّله وفضوله" إلى مقتل الليدي دي على هذه الصورة المأساوية!
إن الجمهور وحده هو من يحدد ما إذا كانت أعمال هذا الفنان أو ذاك إبداعا حقيقا أم لا، بعيدا عن سيف الفضيلة الذي يحمله دعاة القيم الرفيعة، ممن يظنون أن الفنان أشبه بملاك، فيأخذون عليه تلفّظه بكلمات خادشة للحياء، حتى في جلسات خاصة يتم تسريبها. لقد طوّع أعظم الشعراء والكتاب الكلمات القبيحة، ليجعلوا منها رمزيات جمالية.. كما فعل شاعر روسيا العظيم ألكسندر بوشكين، وحتى على المستوى العربي، فهناك من استخدم الألفاظ النابية في أشعاره، كمحمود درويش، ونزار قباني، ونجيب سرور في قصيدته الشهيرة ".. أميات".
إقرأ المزيد
هل تمت التضحية بـ "ملكة جمال لبنان" إرضاء للرأي العام؟
حرية التعبير مكفولة، بالأحرى.. يجب أن تكون مكفولة. وبناء على ذلك.. هل يجب أن تتدخل الدولة، للحد مما يعتبره البعض فنا متدنيا رديء المستوى؟ سأفكر قبل أن أجيب بلا. لكن هذا لا يعني إعفاء الدولة من مسؤوليتها، التي لا تتمثل في المنع والحظر، وإنما تتمثل، من وجهة نظري، في توعية النشء والعمل على الارتقاء به لتصنع منه انسانا ذواقا، يحدد تلقائيا ما هو الجميل وما هو الردئ، وحينها تسقط كل محاولات الإسفاف والابتذال لأنها ببساطة ستصبح بضاعة كاسدة.
تُذكر في هذا الصدد مقولة تُنسب لأحد الوزراء الهولنديين، في ثمانينات القرن الماضي، إذ قال: "نحن نعلّم الأطفال في المدارس كي يتمكنوا من قراءة الجرائد".. وبالطبع "القراءة" هنا لا تعني فك الحرف كما يُقال.
وبالعودة إلى الفنان الروسي، ميخائيل بويارسكي، ومقص الرقابة.. يُحكى أن المخرج السوفيتي، ليونيد غايداي، حوّل مقص الرقابة لصالحه على نحو طريف، فقد أراد المخرج أن يبعد أنظار لجنة الرقابة عن مشاهد جوهرية في فيلمه "اليد الماسية"، فأقحم مشهدا، لا يمت بصلة لفحوى الفيلم، يظهر في نهايته تسجيل لانفجار نووي. وإمعانا في التضليل، شدّد غايداي على أعضاء لجنة الرقابة، أن بإمكانهم حذف أي شيء من الفيلم، سوى مشهد الانفجار. فكان رد هؤلاء هو ضرورة حذف هذا المشهد على وجه التحديد. وبعد شد وجذب، استخدم خلاله المخرج العبقري كل ملكاته التمثيلية في تجسيد دور المخرج العنيد والمتزمت، رضخ في النهاية لقرار اللجنة "صاغرا"، وقبل بحذف المشهد المثير للجدل، لتبقى كل المشاهد المستفزة، التي أرادها، وتمكن من عرض وجهة نظره التي عكست سلبيات أخلاقية في المجتمع، كانت السينما السوفيتية تحاربها، مثل البغاء، والسكر، والعربدة.
علاء عمر