التاريخ لا يرحم! ... الخضر هارون

جمعة, 14/10/2022 - 08:43

مقولة تتناقلها الأجيال إما بغرض التأسي والسلوان علي فقد جلل أو غاية تعذر بلوغها بفعل فاعلين ظلموا في ظن الخاسر أو لطي الضلوع علي "نافذ من الصبر يدمي كحز المُدي" أو لتحذير الغافل صاحب السطوة اليوم أو صاحب الكلم والقلم من مغبة سوء أعماله غدا مما سيكون مكنوناً في صحائف التأريخ. وفي كون أن التاريخ لا يرحم، بعض الحق لذلك يحرص كثير من عقلاء الناس على ألا يحفظ لهم التاريخ معرة وسبة متداولة. ونضرب لذلك بعض الأمثال:

لما سأل عظيم الروم أبا سفيان بن حرب كبير قريش وهو مشرك يومئذ يناصب المسلمين العداء، أحسن أبوسفيان القول في حق رسول الإسلام محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام وهو كاره فلامه أصحابه بأن أضاع فرصة ثمينة للنيل من النبي في حضرة زعيم دولة عظمي يومئذً دانت له الدنيا بعد أن هزم الفرس وأجلاهم عن الشام وسار من حمص إلي بيت المقدس حافيا شكراً لله . لكن رؤيا مفزعة نغصت عليه نشوة النصر الذي تحقق للتو إذ رأي في منامه أن مُلك الروم زائل في تلك البقاع علي يد مختون . ما كان الملك يعرف أحداً يختتن سوي يهود. قال له جنده نبيد خضراءهم إن شئت .ثم عثروا علي أعرابي وكشفوا عن ثيابه فوجدوه مختوناً واتفق أن كان أبو سفيان يقود قافلة تجارية إلي الشام فجاءوا به إلي الملك يستجوبه في شأن الرسول الأعظم فاستعصم ابو سفيان بفضيلة الصدق وهو كاره كما تقدم يخشي أن يحفظ له التاريخ كذبة تبقي في الأنام ما بقي الدهر . أجلسه الملك بجانبه وأجلس أصحابه من خلفه محذرا إياهم وحاثاً لهم علي متابعة قول أبي سفيان في حق النبي : إن كذبني فردوا عليه:

قال أبو سفيان: فلقد عرفت أنى لو كذبت ما ردوا عليّ، (ذلك لأنه كبيرهم وقائد قافلتهم إلي الشام) ولكنى كنت امرءاً سيدا أتكرم وأستحى من الكذب، وعرفت أن أدنى ما يكون فى ذلك أن يرووه عني، ثم يتحدثونه عنىّ بمكة فلم أكذبه.
أعجب أبو سفيان بدهاء ملك الروم فقال: : فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف!

ولعل العرب كانت تحافظ علي سنة إبراهيم في الجاهلية ،فتختتن.

ويبدو أن العناية بالذكر الحسن، جبلة في الخلق كأنها تستبطن الرغبة الملحة في الخلود، تلكم الرغبة التي أخرجت أبوينا من الجنة وإلا ماذا يضير من مات وأصبح تراباً وغدا عدماً بما يقال بعده وقد قبر في التراب وما ضره إن عاب عليه الأحياء فعله أو استحسنوه ؟ وما قيمة الصيت الحسن إن لم يكن الحريص عليه ينتابه شعور خفي بأن ذلك ينتفع به بعد الممات علي نحو ما ، وأن في مثل هذا الظن إحساس بأن ثمة حياة بعد الموت. وربما خشي البعض أن تعير ذريته بما اجترح من أخطاء وخطايا . جاء في التنزيل تسرية عن الرسول صلي الله عليه وسلم لما كان يلاقي من عنت التجريح الشخصي والبدني ومن الأكاذيب والبهتان قول الله تعالي ( ورفعنا لك ذكرك). وفي سورة الكوثر لمن عيره بانقطاع النسل ( إن شانئك هو الأبتر).جاء في تفسير الطبري:

" روي الضحاك عن ابن عباس عن (ورفعنا لك ذكرك)، قال : يقول له (المولي سبحانه) لا ذكرتُ إلا ذكرتَ معي في الأذان ، والإقامة والتشهد ، ويوم الجمعة على المنابر ، ويوم الفطر ، ويوم الأضحى : وأيام التشريق ، ويوم عرفة ، وعند الجمار ، وعلى الصفا والمروة ، وفي خطبة النكاح ، وفي مشارق الأرض ومغاربها."

كانت أماوي زوج حاتم طي تري في كرمه سفاهة وطيشا فقال لها :

أَماوِيُّ قَد طالَ التَجَنُّبُ وَالهَجرُ
وَقَد عَذَرَتني مِن طِلابِكُمُ العُذرُ
أَماوِيُّ إِنَّ المالَ غادٍ وَرائحٌ
وَيَبقى مِنَ المالِ الأَحاديثُ وَالذِكرُ

ساقني إلي هذا ما حاق بذكري الإيطالي كريستوفر كولمبس الذي أرسله ملك اسبانيا لجلب البهارت من الهند فضل طريقه إلي أمريكا في الثاني عشر من أكتوبر عام ١٤٩٢ .وتتواتر روايات بأن مكتشفها الأول هو ملك دولة مالي المسلم مانسا أبوبكرالثاني الذي وصلها قبله بمائة عام. تم تعظيم الرجل بعد أن تكاثر عدد المهاجرين من ايطاليا نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولأن أولئك المهاجرين قد تعرضوا لأول العهد للاضطهاد والتمييز العنصري في أمريكا وألصقت بهم الكثير من النقائص واعتبروا من الملونين وليس بيضاً، تكأكأت نخبهم تمجد الرجل الذي اكتشف أمريكا ومنح هؤلاء البيض الذين يتنمرون عليهم هذا البلد الجميل وقاموا بحملة تطالب بالحفاوة بكولمبس نجحت عام ١٩٣٤ بإصدار الرئيس فرانكلين روزفلت قراراً بجعل اليوم ١٢ أكتوبر يوما لتخليد كولمبس وعطلة فيدرالية مدفوعة الأجر. تغيرت لاحقا إلي الاثنين الثانية من شهر أكتوبر.

أثارت الحفاوة بكولمبس حفيظة ضحاياه من ذراري الهنود الحمر، أصحاب البلد بالأصالة، فتكونت نخبة منهم سعت لتغيير الاسم واستنكروا محقين، الاحتفال بالرجل الذي تسبب في نزع بلادهم من بين أيديهم وابتدر فيها سبة الاسترقاق فاستعبد الآلاف منهم وأرسل ألوفاً أخري منهم رقيقا إلي أسبانيا ، مات أكثرهم أثناء الرحلة وقذفت أجسادهم في اليم طعاماً للحيتان وانتحر نحو خمسين ألفاً في اسبانيولا ( جزء من الدومينكان وهايتي اليوم) مفضلين الموت علي التعرض للتعذيب الفظيع لرجال كولمبس.

أعطت حركة الحقوق المدنية ستينيات القرن العشرين التي دشنها السود دفعاً قوياً للمطالبة بوقف الاحتفال بكولمبس. غيرت ولاية داكوتا الجنوبية قبل ثلاثة عقود تسمية اليوم ليوم الهنود الأمريكيين ثم غيّر الرئيس الحالي جوزيف بايدن اسم اليوم إلي يوم السكان الأصليين علي المستوي الفيدرالي.

المهاتما غاندي يحظي باحترام كبير فهو أستاذ الزعيم الأمريكي الدكتور مارتن لوثر الصغير في فلسفة وممارسة الكفاح السلمي في مواجهة القهر وقد أفضي نضاله لاستقلال الهند كما نجحت حركة الحقوق المدنية في إنهاء التمييز العنصري في الولايات المتحدة. لكن النبش في ثنايا التاريخ ظفر بأدلة قوية تدمغ غاندي بالعنصرية خاصة أثناء اقامته في جنوب إفريقيا علي مدي عقدين من الزمان حيث كان يستخدم الكلمة العنصرية التي كان يطلقها البيض علي السود في جنوب إفريقيا وهي كلمة ( كافر = المستعارة من الكلمة العربية التي تطلق علي غير المسلم والتي كانت تطلق في شرق إفريقيا علي الافارقة غير المسلمين ) .وكانت تلك الكلمة ذات الظلال العنصرية في جنوب إفريقيا، ترد في رسائله و مطالباته لنظام الفصل العنصري هناك بعدم معاملة الهنود المعاملة العنصرية التي يلقاها السود. ولما انتشر الطاعون في جنوب افريقيا عام ١٩٠٥ طالب غاندي بفصل الهنود عن السود في المشافي كأن السود هم سبب العدوي. بعض هذه الاتهامات مؤكدة بالتدوين لم يسارع بنفيها حفيده الذي كتب سيرته ولكنه عللها بأن جده جاء إلي جنوب إفريقيا صغيراً في الخامسة والعشرين من عمره ولم يكن قد عرف السود جيداً وأردف بأن جده إنسان غير معصوم عن الخطأ. هذا النبش المحكم أصاب سمعة الزعيم الهندي في مقتل في افريقيا للحد الذي أدي لإزالة تمثاله من حرم جامعة غانا في أكرا في ديسمبر ٢٠١٨.

واستمر النبش في أضابير التاريخ وامتد من غاندي إلي تلميذه في فلسفة وممارسة النضال السلمي من أجل تحقيق الغايات ، الدكتور مارتن لوثر كنق الصغير، إذ نشر رفيق دربه وصديقه الصدوق وخليفته القس رالف أبارنثي كتاباً بعنوان ( و تساقطت الجدران) عام ١٩٩٨أثار ضجة وغضباً في أوساط قيادات السود حيث حوي اعترافات بأن كان للدكتور كنق علاقات مع عشيقات خارح حرم الزوجية المقدس بل طلبوا منه إزالة ذلك الجزء من كتابه لكنه لم يفعل وعلل ذلك بأنه إنما أراد بذلك البوح تشجيع الأجيال الصاعدة من السود بأن زعيمهم لم يكن نبياً بين الأنبياء إنما كان بشراً تجور به الدنيا أحيانا وتهتدي فلا تصرفهم نواقص البشر من التغلب علي الصعاب والكفاح النبيل. وزادت الطين بله نائبة في مجلس الشيوخ الولائي، في ولاية كانتاكي، الآنسة جورجيا باور، في كتاب لها بعنوان ( شاركت في الحلم) وهو عنوان مقتبس من خطبته الأشهر ( لدي حلم). قالت إنها أمضت ليلة حميمية في أحضان الرجل في الليلة التي سبقت مقتله . كذبها أحد أعوانه .وكان مكتب التحقيقات الفيدرالية قد هدد السيد كنق أثناء كفاحه لكي يكف عن الكفاح، بأنه سيكشف مغامراته مع بيضاويات!
ولا يجئ بيت زهير بن أبي سلمي المشهور في سياق ما نحن فيه إلا جزئياً :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفي علي الناس تعلم

التاريخ لا يؤرخ للعامة والبسطاء لكنه مشغول بعلية القوم تمجيدا وتحقيراً لكن وسائط التقانات الحديثة أبطلت احتكار إعلام التلقي وفتحت الباب واسعاً للكافة للإنتاج والتوزيع بالصورة المتحركة والصوت وغداً تنتشر وسائط الذكاء الاصطناعي فتقولك ما لم تقل وربما أودت بحياتك عبارة لم تجر لك علي لسان.
ومع ذلك فانكشاف المستور وافتضاح الخزايا ليس ضربة لازب ولا حتماً مقضياً فكم غُيبت حقائق وطُمرت جرائم وطال التدليس حقائقاً كانت شاخصة للعيان تحدث عن نفسها، فالتعويل علي محكمة التاريخ وحدها يطيل عذابات وشقاء المستضعفين في الأرض ويثبط هممهم ويصرفهم عن بذل أقصي الجهد في غمار السعي المقدس والمدافعة الناجزة من أجل تحقيق الكرامة الإنسانية وهي أغلي ما كرم به الخالق العظيم ولد آدم وحواء والله نسأل الستر في الفانية والباقية.

الخضر هارون
 

جديد الأخبار