العبودية كلمة قاسية في قاموس اللغة، وتاريخ مظلم كريه حمل في جنباته العار على من أذنبوا في حق البشرية وأسسوا لفكر وممارسات العبودية؛ ذكريات مريرة في مكان، وممارسات قبيحة في مكان، وادعاءات مخجلة في مكان، وتبعات مهينة في مكان، ونضال مرير في مكان، وحركة من أجل الانعتاق التام في مكان لا يقبلون بمجرد وجودها أو تنامي فكرها وحراكها (آيرا) التي لا تريد لموريتانيا وشعبها بكل مكوناته سوى الخير والإزدهار تحت مظلة الوطن وقيم العدالة الاجتماعية (آيرا) التي تريد الحرية والعزة للجميع.
قد تكون العبودية قد انتهت في موريتانيا من الناحية القانونية كقرار وقوانين لكنها لا تزال موجودة كواقع وتبعات قاسية ومترسخة ومتجذرة فلا يعني الورق أبداً أن البعض قد تحرر من عبوديته، ولا يعني الورق أبداً أن البعض قد تحرر وطهر عقله وقلبه من استعباد الآخر ومن سلوكية النيل من الضعيف وسلبه أبسط ما يملك؛ لم نتطهر بعد من العبودية.
ما أن تتفكر في تركيبة المجتمع الموريتاني الطبقية جيداً وتجول في جنباتها للدراسة والتحليل البسيط وليس المُعمق ثم تلج مجتمع الحراطين حتى تشعر بالهول مما ترى حتى ترى وتشم وتتلمس العبودية فعلا ونتاجاً، إن ما تراه ليس فقراً طبيعياً وإنما كارثة إنسانية كبرى تولدت نتيجة العبودية وإخضاع فئة بشرية لأخرى أثناء عبوديتها بفعل امتلاك بشر لبشر يتصرف فيهم كيف يشاء، وبفعل إخضاع وإذلال فئة بشرية لأخرى بعد العبودية في نفس البيئة بسبب الحاجة المُلحة والعوز، فمن كانوا يملكون العبيد كانوا إقطاعاً يملكون الأرض ومن عليها من بشر وحياة، واليوم يملكون الأرض وما عليها من حياة؛ صحيح أنهم لا يملكون البشر بالمعنى المطلق للكلمة لكنهم يملكون أمرهم إذ يتحكمون في معايشهم وكرامتهم التي هي عُرضة للمساس تحت أي ظرف وأهون الأسباب.. لاتزال معايشهم وحياتهم رهينة بيد مالك الأمس ومالك أسباب المعيشة اليوم.
العبودية العقارية في موريتانيا
تحرر عبيد الأمس على الورق، ولا زال سيد الأمس سيدا أسير الماضي وقدرة واقع الحال السائد يستضعف ويستغل ويفكر ويتعامل بمنطق السيد والعبد ويرى في ذلك شرعية تاريخية مكتسبة دون أدنى اعتبارات دينية أو أخلاقية، يحتكر المال والأرض والوسائل ومؤثر في صنع القرار وما تؤول إليه الأمور إن تعلق الأمر بالحراطين، ويستحوذ على ملكية الأراضي الزراعية وغيرها ولا يؤمن مجرد إيمان بأن يملك أبناء وأحفاد العبيد ملكية يقتات منها، وكل ما يؤمن به أن يبقى سيداً إقطاعياً وأن يبقى الحراطين إما عبيداً رعية له وإما رعية عاملة في ملكه بخضوع وإذلال وفقاً لحاجتهم فمن حررهم لم يحررهم إلا من المفردة مفردة (العبودية) وأبقى على القيد قيد الحاجة والارتهان في أعناقهم وأعناق أجيالهم.
كان على المُشرع أن يتحرر هو أولاً تحرراً كليا قبل أن يبدأ بتشريع إلغاء مفردة الرق والعبودية دون إلغاء قيد العبودية الذي لا يزال قائما، وأن ينظم بعدل قانون الملكية في موريتانيا الشاسعة مترامية الأطراف؛ وهنا لا نريد أن نقاسم الغير فيما ملكوا ولكن نريد أن نضع حد للجشع والملكية الخيالية التي يعجز البعض عن إدارتها بنجاح على كثرتها وسعتها على الرغم من وفرة الموارد وحاجة الأنفس الرقيقة التي تم ويتم استرقاقها لضعفها وحاجتها، ولو أخذ المُشرع بعين الاعتبار أن إنهاء العبودية لا يتم إلا برفع قيد العبودية كاملا من خلال أن يكون للإنسان كيانٌ وكرامة ورزق ومأوى وكل ذلك مصون بقانون وقيم.، وكيف يتم رفع العبودية ولا زال مُستعبد الأمس بحاجة ماسة لسيد الأمس، ولا زال سيد الأمس لم يحرر بعد من أمراض العبودية، ولا زال مُستعبد الأمس تأكله آثار وتبعات العبودية وتنهش جوارحه، وما العبودية العقارية إلا وجهاً من وجوه آثار وتبعات العبودية الكريهة.
المسؤول عن العبودية وأبعادها في موريتانيا؟
من المسؤول عن العبودية وآثارها وتبعاتها في موريتانيا، هل الإقطاع فقط هم المسؤولون؟ هل هي السلطة والساسة والقانونيين والحقوقيين؟ هل هم أهل العلم والقيم؟ هل هم الحراطين أنفسهم؟ والجواب نعم الجميع مسؤولون وفي مقدمتهم أهل العلم والقيم وعلماء الدين والساسة والمُشرعون والحقوقيون والطبقة المثقفة المتنورة، وأما الحراطين فماذا يملكون لأنفسهم بعد استضعافهم واضطهادهم إن خرجت أصواتهم.
الحراطين جزءاً هاماً من نسيج الوطن والمجتمع، ويجب أن تشملهم المسؤولية الوطنية شمول غيرهم عدلاً وإنصافاً فهم الطبقة الكادحة المنتجة التي يعول عليها في نهضة موريتانيا فهل تنهض موريتانيا بمواطن تحت التصنيف المجحف أم بمواطنٍ حرٍ كريم يتساوى مع غيره في الحقوق والواجبات، أما اللوم الأكبر فقد يقع على الطبقة المثقفة في كافة أرجاء موريتانيا وعلماء الدين إذ يقع على عاتقهم قبل غيرهم عملية الإصلاح النفسي والاجتماعي للمجتمع الموريتاني فقد بات من المعيب أن يبقى الحال على ما هو عليه، وأبسط صورة لمجتمع التعايش هو أن تقبل بالآخر يحكمك وتحكمه وجوده حق كما وجودك وعليه ما عليك؛ والمرحلة السياسية المقبلة ستكون أكبر اختبار للمجتمع والدولة في موريتانيا الدولة المعاصرة التي لا تحتمل مزيدا من العبودية أو العنصرية أو تبعاتهما، ولابد من معالجة أزماتنا الداخلية لحماية سيادتنا، كذلك لا يحتمل وضعنا الداخلي أي عصف خارجي من يحيط بنا من تطرف يتنامى على أيدي المتطرفين التابعين لهذه الجهة أو تلك .
إن إصلاح ذاتنا داخلياً ليس إنصافاً لفئة اجتماعية بعينها وإنما تعزيزاً لدولة القانون والعدل والمواطنة الصالحة في موريتانيا، وحماية لسيادتنا من كل متربص.
ولا تنسوا قول الله العزيز الكريم (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) ولا تهينوا من كرمه الله.
نائبة برلمانية موريتانية*
قامو عاشور
صحيفة السوسنة الأردنية