للمدن الصحراوية في شمال أفريقيا هندسة معمارية تتميز بخصوصية الزخرفة والغرف التي تراعي في بنائها الظروف المناخية والعادات الاجتماعية وتقاليد السكان، وتعتبر مدينة ولاتة في الصحراء الموريتانية إحدى أهم الحواضر التاريخية في المنطقة والتي مازالت تحتفظ بمميزاتها العمرانية، لكنها تعاني من العطش وزحف الرمال اللذين يهددان سكانها بالرحيل وترك المدينة.
نواكشوط - انطلقت في مدينة ولاته التاريخية أقصى شرقي موريتانيا، الثلاثاء، الدورة الثامنة من مهرجان المدن القديمة، مهرجان ينتظم وبشكل دوري في كل من “ولاتة” و”تيشيت” و”شنقيط” و”أدان”، لتسليط الضوء على تراث هذه المدن الأربع وجعلها رافدا سياحيا في البلاد.
ويستمر المهرجان على مدى ستة أيام، تتخللها سهرات فنية وفلكلورية بمشاركة فرق من الجزائر ومالي والمغرب والسودان، إضافة إلى معارض للصناعة التقليدية، وسباقات للإبل والخيول.
وقال الرئيس الموريتاني محمد ولد عبدالعزيز في كلمته خلال افتتاح المهرجان، إن هذا المهرجان يشكل فرصة “لاستحضار تاريخ البلاد المشرق والتأكيد على ضرورة الحفاظ على الموروث الثقافي للبلاد، وإبقاء المدن التاريخية في البلاد تنبض بالحياة”، لكن أهالي ولاتة التي تتميز بفنها المعماري المميز، يقولون ما جدوى المهرجان والمدينة تغرق في العطش.
ونظم عدد من سكان المدينة قبل أسبوع من انطلاق المهرجان، وقفة احتجاجية أمام القصر الرئاسي في العاصمة للمطالبة بحل مشكل مياه الشرب في مدينتهم عبر ربطها ببحيرة أظهر القريبة منهم. ويتساءل الأهالي الذين عرفوا بكرم الضيافة، كيف سيستقبلون زوارهم، وماذا سيسقونهم إذا عطشوا، مبدين استغرابهم من حرمان مدينتهم من الاستفادة من هذه البحيرة القريبة من مدينتهم في وقت تمد أنابيبها ومنشآتها لمدن تبعد عنها أضعاف مسافة مدينتهم.
واعتبر أهالي ولاتة، أن الإنفاق على مشروع لتزويد المدينة بالمياه الصالحة للشراب أولى من إنفاق الأموال على المهرجان.
وتوافد عدد من الزوار والمسؤولين على مدينة بمناسبة إحياء ذكرى المولد النبوي والمهرجان، واكتظت ساحة البطحاء وسط المدينة بالخيام والوافدين، بينما تولت وزارة الثقافة الموريتانية تأجير منازل المدينة دعما لسكانها، وتوزيعها على الضيوف القادمين من خارج المنطقة.
وبدت المدينة الواقعة في أدغال الصحراء تنفض غبار النسيان، لكن معاناة القادمين من الداخل بفعل ضعف التغطية الهاتفية وعجز شركات الاتصال عن توفير خدمة الإنترنت نكد حياة البعض، ومنع السكان من استغلال التظاهرة لمزيد من التعريف بالمنطقة وإبراز هويتها الثقافية وإرثها الحضاري.
وتحولت السهول المجاورة للمدينة إلى منتجعات مؤقتة وسط قطعان الماشية المعدة للبيع أو المشاركة في السباقات مع حركة أمنية كثيفة تحسبا لأي طارئ.
وتوصف مدينة ولاتة، الواقعة على بعد حوالي مئة كيلومتر، جنوب شرق العاصمة نواكشوط، بـ”جوهرة الشرق” الموريتاني أو “بوابة الصحراء”، كما يفضل الموريتانيون تسميتها، نظرا لموقعها المتميز، الذي جعلها نموذجا للتلاقي الحضاري، حتى وصفها البعض الآخر بـ”قلعة التجارة والعلم”، نظرا لتفاعل حضارات عديدة من العرب والبربر منذ القرن السادس الهجري، كما تميزت عبر التاريخ، بأنها أحد أهم مراكز الإشعاع الثقافي العربي الإسلامي، بعد أن حل بها عدد كبير من العلماء والمفكرين، من فاس وتلمسان ومراكش، كما استقر بها عدد من أهالي جنوب الجزائر، وبعض العائدين من الأندلس. ويتجلى ذلك الثراء الثقافي أيضا في عادات المدينة شديدة التحضر، وسط عالم صحراوي بدوي، بما في ذلك التنوع في العادات الغذائية والوجبات النادرة والتي لا تكاد تكون معروفة في بقية المناطق.
المدينة التي صنفتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونيسكو” عام 1996، موقعا للتراث العالمي، كانت في الأصل قرية تابعة لمملكة غانا، وذلك قبل ظهور الإسلام، وكانت تسمى “بيرو”، ثم ما لبثت أن تطورت إلى محطة مهمة من محطات التبادل التجاري والعلمي بين شعوب بلاد المغرب شمالا، والسودان جنوبا، نظرا لوجودها على طريق التجارة الصحراوي.
ألوان تشابه لون الصحراء
وتتميز المدينة بعمارة امتزجت فيها الهندسة البربرية بالعربية الإسلامية مع اللمسات الأندلسية والمغربية والتي تظهر في طراز مواد البناء، وأنواع الزخرفة وانسجامها مع المشهد البيئي العام الذي وضع المدينة فوق مرتفعات حوض جعلها قلعة تحرس هدوء الصحراء وتتباهى بجمالها في وجه المرتفعات الشامخة.
وشُيدت المنازل العتيقة، من الحجر الجيري، ويغطي جدرانها الطين الأحمر، وتمتاز مداخلها الرئيسية بالرسوم والزخارف الملونة التي تقوم بها النساء جميعا، دون اقتصارها على الصناع التقليديين.
ولا تكتفي “الولاتيات” بزخرفة مدخل المنزل من الخارج، بل يتم زخرفته من الداخل، فيتم تزيينه بالرسوم والكلمات المنقوشة بالخط العربي، أما مكونات المواد التي تستخدم في هذا الفن فهي أساسا الطين، والعلك الذي يتم مزجه بالطين الأحمر كي يلتصق أكثر بالجدران.
وتصنع أبواب المنازل من خشب السنط الأحمر الأصلي، وتؤطرها زخارف ورسوم وأقواس وأشكال هندسية باللون الأبيض.
ولمنازل ولاتة التقليدية ممرات طويلة، تفضي إلى الساحة الداخلية للمنزل الذي عادة ما يتكون من طابقين، ولكل منزل بابان، أحدهما مخصص للرجال والضيوف، والآخر للنساء عامة، كما أن في كل بيت مجلسا يسمى محليا “درب” وهي إشارة إلى موقعه كأقرب مكان من باب الشارع حتى لا تقع عين الزائر على النساء.
الولاتيون لا يزالون متمسكين بفنهم المعماري المتميز رغم غزو الحداثة، فبعض الزخارف أصبحت تستخدم فيها مواد حديثة من أجل تلميعها، والفرق بين الزخارف القديمة والثانية، أن الأولى التي تستخدم فيها مواد طبيعية لا تتأثر بفعل نزول الأمطار، عكس اللوحات الزخرفية الأخرى التي تتأثر بمياه الأمطار، وسرعان ما تزول وتنمحي بمرور الأيام.
مدينة ولاتة القديمة التي تبلغ مساحتها حوالي 600 متر في 300 متر وبعضها أطلال، معرضة اليوم بكلّ تراثها العريق للغرق بسبب التّصحر وزحف الرمال، ما دفع بالعديد من سكانها إلى الهجرة، حتى أنّ عددهم اليوم لا يزيد على الألفي نسمة، وهم الذين كانوا يفوقون العشرات من الآلاف منذ عهود سحيقة، ولعل العزاء الوحيد في بقاء هذه المدينة هو نشاط المكتبات والمخطوطات المدعومة من اليونسكو والمعهد الموريتاني للبحث العلمي، وهذا ما سمح بتصنيف بعض مكتباتها التي تحوي الآلاف من المخطوطات الثمينة التي لا تقدّر بثمن، على أن البعض الآخر مازال عرضة للإهمال ويعيش حالة مزرية، إن لم يتداركها الغيورون الذين يريدونها أن تروي الكثير من تاريخها الحضاري ونمطها العمراني المتفرد الذي يمكن أن يجعلها قبلة سياحية بامتياز.
/alarab.co.uk