في وقت توقع فيه البعض أن ينقلب الرئيس الموريتاني الحالي "محمد ولد عبد العزيز" على الحدود الرئاسية والصلاحيات المحدودة التي وضعها هو بنفسه كقاعدة لكل من يأتي بعده، فاجأ "ولد عبد العزيز" الجميع باستمراره حتى الآن على وعده بالبقاء بعيدا عن الدخول في معركة حول فترة رئاسية ثالثة، وبفرض حفاظه على عزوفه عن السلطة مرة أخرى، فإن الجدل يتعاظم حول من يخلفه في انتخابات الرئاسة المتوقعة بعد ما يزيد على شهرين في يونيو/حزيران القادم.
ولا يتوقف الأمر عند حدود اختيار الرئيس المقبل لموريتانيا فقط، وهو شخص سيتحمل إرث إكمال الإصلاحات الاقتصادية التي بدأها "ولد عبد العزيز"، بل يتعداه لكون الرئيس القادم مُطالبا بالسير على المنوال نفسه، والتخلي عن الرئاسة بعد فترتين رئاسيتين إن تم انتخابه مرة تالية بعد خمس سنوات من الآن، وهو الأمر الذي يبدو من الصعوبة بمكان في بلد لطالما عرف الانقلابات العسكرية مثل موريتانيا، وهو السبب نفسه الذي يجعل من المعركة الدائرة حول الانتخابات الرئاسية القادمة أهم معركة ستحدد المستقبل القريب للدولة العربية الأفريقية الصاعدة.
حول الجنرال
يضع الموريتانيون الكثير من الثقة في دستور البلاد، وتحديدا في المادة الثامنة والعشرين(1) التي تنص على أنه "يمكن إعادة انتخاب رئيس الجمهورية مرة واحدة"، وهي مادة أُضيفت إلى الدستور الموريتاني ضمن التعديلات التي أُدخلت عليه عام 2006. وفيما تظهر هذه المادة كفرس رهان رابح في معركة الانتخابات القادمة، خاصة بالنسبة لمعارضة تطالب بانتخابات نزيهة تخضع لمراقبة محلية ودولية، فإن الأمور ليست بهذه البساطة عندما تُوضع في سياقات عدة أخرى، سياقات تبدأ مع تاريخ طويل مع الانقلابات العسكرية، ولا تنتهي عند كون مرشح الرئاسة الأوفر حظا الآن هو الجنرال "محمد ولد الغزواني"، الرجل المعروف بكونه اليد اليمنى لـ "ولد عبد العزيز"، وأحد مهندسي ومنفذي انقلابين عسكريين(2) جريا في عامي 2005 و2008 على التوالي.
كان الانقلاب الأخير عام 2008 هو الذي أتى بـ "ولد عبد العزيز" إلى السلطة، وإن حاول إضفاء بعض الشرعية عليه بانتخابات الرئاسة التي جرت في 2009 ليظل في الرئاسة من وقتها وحتى هذه اللحظة، إلا أن الانتخابات لم تكن وسيلته الوحيدة للحصول على الشرعية اللازمة لاستمرار حكمه، بل كانت إصلاحاته التالية، والتي بدأت منذ اللحظة الأولى لتوليه الحكم، هي التي منحته مباركة شعبية في جزء منها ودولية في مجملها للاستمرار في الحكم، وكان أول هذه الإصلاحات عسكريا بامتياز في محاولة للقضاء على تسلل عناصر الجماعات المسلحة والتهريب والاتجار والهجرة غير النظاميين عبر الحدود الموريتانية غير مُحكمة السيطرة.
تُعرف موريتانيا فيما تُعرف بالمساحات الشاسعة من صحرائها(3) التي تُمثّل أكثر من ثلثي مساحتها مقابل تعداد سكاني يتعدى الأربعة ملايين نسمة بقليل، الأمر الذي جعل الجيش يعتمد في سيطرته على مساحات واسعة من تلك الأراضي على قبائلها القاطنة فيها، ما فتح المجال لتصبح موريتانيا ممرا مفتوحا لجماعات التهريب عبر جنوب القارة لشمالها، وكذا عناصر الجماعات المسلحة التي نفّذت جزءا من عملياتها في موريتانيا ذاتها.
دفع ذلك الجنرالين "عزيز" ومساعده الأثير "الغزواني" لتشكيل مجموعة "التدخل الخاصة"(4)، وهي مجموعة مكونة من مئتي فرد من عناصر الجيش الحاصلين على تدريب عسكري استثنائي، ولديهم مهمة واحدة: تعقب مواقع الجماعات المسلحة ومجموعات التهريب في الصحراء والقضاء عليها، مزودين بأسلحة أميركية شديدة الحداثة ضمن حزمة تسليح قوات "الأمن الرئاسي"، وهي حزمة أتت ضمن مساعدات من واشنطن مهّدت لدخول موريتانيا ضمن ما يُطلق عليه تحالف الولايات المتحدة العالمي للحرب على الإرهاب وقتها، ثم التحالف العسكري الفرنسي للقضاء على التمرد في مالي منذ عام 2013، وهو ما عُرف بعد ذلك بقوات "مجموعة الساحل"المعروفة اختصارا بـ (G5).
لم يكتف "عزيز" بتوطيد العلاقة مع الجيش، ويرى جزء من المعارضة أنه قد حدثت نجاحات عدة في خطة الإصلاح الاقتصادية والاجتماعية، وإن لم تسر على الوتيرة ذاتها، وشملت هذه النجاحات كما يصفها الدكتور "سعد ولد الوليد" رئيس حزب الرباط الموريتاني المعارض، في حديثه مع "ميدان"، "إصلاحات للبنى التحتية وفي مجالات التعليم والبحث والصحة والزراعة والنقل والطاقة وحرية الصحافة، مع حقوق أوسع للمرأة"، حد تعبيره.
تؤيد معدلات النمو الاقتصادي في موريتانيا، والتي ارتفعت عام 2017 لتصل إلى 3.5%، حديث "ولد الوليد"، وإن ظلت تلك الفترة من حكم "ولد عبد العزيز" لموريتانيا موضع جدل كما يصفها الكاتب والمحلل السياسي الموريتاني "هشام جعفر مولاي"، في حديثه لـ "ميدان"، قائلا: "كانت البلاد لتخطو خطوات مهمة لو تم توجيه عائداتها من العملة الصعبة إلى مشاريع مدرة للدخل تنهض بالاقتصاد، بدلا من توجيهها لقطاعات جامدة كتعبيد الطرق و بعض البنى التحتية، رغم الحاجة إليها".
و"لا يزال من الصعب تقييم فترتي نظام الرئيس "عزيز" بالإيجاب أو السلب"، كما يضيف "مولاي"، وفيما تبدو أهم مكتسبات هاتين الفترتين في هذه المرحلة هي قدرة الرئيس الحالي على التخلي عن سلطته لأجل رئيس منتخب قادم، فإن الإصلاحات المنقوصة للجنرال هي ذاتها التي تركت المعارضة الموريتانية الآن منقسمة على نفسها حول رأيها حول النظام الحالي، وإن كانت المعارضة أيضا دون خطة واضحة أو برنامج انتخابي قد يزيد من فرص مرشحيها أمام مرشح النظام الجنرال "الغزواني"، وبدون أفق محتمل لوجود خطة كتلك فيما بعد، وهو أمر قد يعبّد الطريق الممهد بالفعل أمام "الغزواني" وبشكل شبه نهائي.
انتخابات بنكهة عسكرية
على الأرجح فإن الانتخابات الموريتانية المقبلة ستكون الحدث الأكثر جدلا في الدولة، وقد بدأ الرئيس الحالي دوامة الجدل بشكل علني بتصريحه(5) الأسبوع قبل الماضي وقوفه "هو وكل من يأتمر بأمره" حد تعبيره خلف ترشح الجنرال "الغزواني"، لكن الجزء الأكبر من الجدل الدائر الآن يحوم حول مرشح المعارضة غير المعروف بعد، وإن تقلصت الاحتمالات بعد إعلان "تحالف المعارضة الانتخابي" في الثامن من مارس/آذار الحالي إلى اسمين(6) سيتم اختيار أحدهما فقط للترشح على قائمة الحزب، هما: "محفوظ ولد بتاح"، و"سيدي محمد ولد بوبكر"، وقد أعلن حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل" -صاحب التمثيل البرلماني الأكبر- تأييده لـ "بوبكر"، مع الأخذ في الاعتبار أن الوزير الأول الأسبق لم يعلن ترشيحه رسميا للآن.
يمتلك الرجلان تاريخا مثيرا للجدل أيضا ولا يُعدّان معارضة خالصة، فقد شغل "ولد بتاح" منصب وزير العدل السابق في الحكومة المُعيّنة عام 2005 بعد انقلاب "ولد محمد فال" على الرئيس حينها "معاوية ولد الطايع"، انقلاب هندسه ونفّذه الرئيس الحالي "ولد عبد العزيز" بمساعدة وزير دفاعه "الغزواني"، أما "ولد بوبكر" فقد كان رئيس الحكومة(7) التي خدم فيها "ولد بتاح" ما بين 2005-2007، للمرة الثانية في تاريخه بعد توليه رئاسة الحكومة الموريتانية بين عامي 1992-1996.
كان اتفاق التحالف الانتخابي المعارض يقتضي اختيار مرشح واحد فقط عنه لخوض الانتخابات المقبلة، إلا أن اختيار مرشحين كانا جزءا من "حكومة انقلابية" سابقة، ويُمثّلان كل ما تعارضه تلك الأحزاب، لا يُمثّل سوى "حالة من الإفلاس"، كما يخبر "ولد الوليد" ميدان، معتبرا أن المعارضة "قد فقدت بوصلتها" فيما تسعى "لتصحيح الخطأ بالخطأ"، في وقت تقوم فيه أسس المعارضة الموريتانية ذاتها على اعتبارات شخصية وعائلية وجهوية، ودون مراعاة لأحلام العامة والشباب الموريتانيين الذين وضعوا رهانهم على "شعاراتها البالية" كما يصفها.
أمام تشرذم المعارضة وتخليها عن دورها الطبيعي؛ تبدو قوة الغزواني ممثلة في "رفيق دربه الذي يُمسك بتلابيب الأمور في موريتانيا"
الجزيرة
على الجانب الآخر، لم يأل نظام "ولد عبد العزيز" جهدا لأجل تمهيد الطريق أمام "الغزواني" للوصول للرئاسة، وفيما كانت الاحتفالية التي أُقيمت(8) مطلع مارس/آذار الحالي بهدف الإعلان عن ترشحه بشكل رسمي، في ملعب "شيخا ولد بيديه" بالعاصمة نواكشوط، هي أول خطوة رسمية علنية لدعمه في المرحلة القادمة، كانت الحكومة قد استبقت ذلك بعدة قرارات أعادت رسم الخريطة الانتخابية في موريتانيا من جديد، وفيها أطلقت يدها تجاه الحركات والجمعيات الإسلامية العاملة لإغلاق(9) عدد كبير منها قبيل الانتخابات القادمة.
ولم يكتف النظام الحالي بذلك، وإنما تم تفعيل بند القانون المتعلق بالأحزاب السياسية والذي ينص على أنه "يتم بقوة القانون حلّ كل حزب سياسي قدم مرشحين لاقتراعين بلديين اثنين وحصل على أقل من 1% من الأصوات في كل اقتراع، أو الذي لم يشارك في اقتراعين بلديين اثنين متواليين"، وكانت النتيجة حل أكثر من 70% من الأحزاب السياسية العاملة في الداخل الموريتاني الآن باختلاف انتماءاتها سواء للحكومة أو المعارضة.
ورغم ذلك، لا يُنظر للقرار الأخير بحل الأحزاب بالكثير من الاهتمام فيما يتعلق بكونه ممهدا للطريق أمام الغزواني للوصول للرئاسة، فأمام تشرذم المعارضة وتخليها عن دورها الطبيعي؛ تبدو قوة الغزواني ممثلة في "رفيق دربه الذي يُمسك بتلابيب الأمور في موريتانيا"، كما يقول "ولد الوليد"، مضيفا أنه وبجانب "المنظومة التقليدية التي تدعمه من جيش وحزب حاكم"، فإنه لا يبقى أمام مرشحي المعارضة الكثير من الفرص في وقت تتناوب فيه على موريتانيا معارك أخرى اقتصادية واجتماعية لا تقل أهمية عن الانتخابات القادمة، وإن كانت تزيد من حدة الخلاف حولها في نهاية الأمر.
تُطل الانتخابات القادمة بظلّها على موريتانيا في وقت تكاد تضع فيه الأخيرة قدمها على أول الطريق نحو نمو اقتصادي لم تعرفه نواكشوط منذ عقود طويلة، وعلى الرغم من حقيقة كون الرئيس الحالي قد أتى للحكم بانقلاب عسكري ممتد لليوم، وعلى الرغم من قبضته المحكمة على شؤون الحكم طوال تلك السنوات، يظل هناك شبه اتفاق على أن نظامه قد ساهم بشكل كبير في دوران عجلة الاقتصاد الموريتاني من جديد خاصة بعد انخراطه في التحالفين الأميركي والفرنسي، لكن ذلك لا يمنع وجود عدة مشكلات مستقبلية على الأبواب ويأتي على رأسها الجفاف الذي يهدد الآن سنوات من محاولات الإصلاح، وكذلك التوترات الدائمة في دول الجوار وخاصة "مالي"، حيث تذهب العديد من القوات الموريتانية للخدمة ضمن تحالف الـ (G5) الذي تستضيف نواكشوط مكتب الأمانة العامة له منذ نشأته، وبرعاية باريس التي تمتلك الكثير من النفوذ في دول الساحل الأفريقي.
وفيما سيُمثّل الفوز المرجح لغزواني في الانتخابات المقبلة "انتصارا لمشروع الرئيس الحالي و فلسفته في الحكم و الإدارة"، كما يقول "ولد الوليد" لميدان، خاصة مع كونه المرشح الأقوى على الساحة حاليا، فهو في النهاية لا يعني سوى استمرار سلطة الانقلابات العسكرية في موريتانيا، وامتدادها لخمس سنوات أخرى، خاصة مع كون أغلب الإصلاحات الاقتصادية للنظام الحالي مرتبطة ارتباطا وثيقا من حيث تمويلها مع قدرته على الحفاظ على تحالفاته الدولية، خاصة انخراطه في الأنشطة العسكرية ذات التخطيط الفرنسي، وهي خارطة تحالفات لا يتوقع أن تتغير بحال مع صعود الغزواني المرجح، لتستكمل موريتانيا على ما يبدو سلسلتها الطويلة من الحكم العسكري ذي الصبغة المدنية، وهو حكم لم تقدم المعارضة حتى الآن للموريتانيين ما قد يُعدّ بديلا متماسكا له لإقناعهم بتغييره بأي حال.
هند عبد الحميد
الجزيرة