في فلسطين رجل دين مسيحي يوزع التمر على الصائمين في شهر رمضان

خميس, 29/04/2021 - 11:21

أنا الإبنة الوحيدة لثيو الياس مشتاوي. أبي رجل مثقف ومهندس ميكانيكي عاش حياته كلها في أمريكا. علاقتي به كانت غريبة من نوعها. يجمعنا الكثير ويفرقنا الكثير، لكني أحبه ليس فقط لأنه جزء من كياني، بل لأني كنت معجبة بروحه المتمردة الحرة المحلّقة وبثقافته الشاسعة. كنا نتكلم في الفلسفة والشعر والحياة. أحاديثنا الطويلة والعميقة لم تكن تشبه أحاديثي مع الآخرين في شيء.
عندما كنت أسافر إليه كنا نجلس معاً في فندق «جورج واشنطن» لأيام نتكلم ولا نشعر بالوقت. نتكلم في كل شيء. ونحلل كل شيء.
كان صديقي وكنت أخبره بكل ما أشعر به من دون خوف أو تردد. كان يعرف أسراري كلها، وخبايا روحي.
أبي ليس كباقي الآباء ولا يشبههم في شيء. إنه ثيو مشتاوي!
أنا في لندن وأبي في واشنطن والسفر ممنوع بسبب كورونا اللعينة.
منذ أيام علمت أنه في غرفة الإنعاش فاتصلت بطبيبه. ويدعى الدكتور شمّا. أجاب عن كل أسئلتي بمهنية عالية وصبر شديد. سألته السؤال نفسه أكثر من مرة. هل سيكون أبي بخير؟
وكان في كل مرة يجيبني بالهدوء والرصانة والطيبة نفسها وويشرح لي تفاصيل الحالة.
تدهورت حالة أبي بسرعة واتصل بي الطبيب من تلفونه الخاص. لم يكترث أنه يدفع من جيبه مكالمة دولية. لم يكن مجبراً على ذلك. ولكن إنسانيته دفعته للاتصال.
قال لي إن أبي لن يعيش طويلاً. سألته إن كان بإمكاني الاتصال من موبايلي على أي هاتف وأن يترك الخط مفتوحا بيني وبين أبي حتى يأخذ الله أمانته.
هاتف رياح آخر يوصلني بدقات قلبه.
طلب ربما غريب. أو كي أكون أكثر دقة في التعبير: طلب مستحيل. من سيرضى أن يتخلى عن هاتفه لخمس أو عشر ساعات، وربما أكثر ليضعه إلى جانب مريض في غرفة إنعاش؟
عم الصمت قليلاً بيني وبين الطبيب، ثم قال لي: عندي حل أفضل. هل معك آي فون؟
قلت له: نعم. فأجابني بسرعة: سأتصل بك من لاب توب على فيس تايم، ويمكنك أن تجلسي مع والدك طوال الليل إن أردت.
جلست على سريري أنتظر الاتصال. وفجأة رن الموبايل من جديد ووجدت نفسي أمام الدكتور شما وفي غرفة الإنعاش. وأنا وحيدة في غرفتي في لندن. لكننا مشينا معاً نحو سرير أبي. رأيت أبي أمامي. وسمعت الطبيب يقول له: يا ثيو ابنتك مريم معنا. رفع أبي عينيه. كنت أشهق في البكاء وأكرر فقط كلمة «أحبك». رددتها ألف مرة.
أعرف أنه عرفني وسمع ما قلته.
رأيت الدموع تغزل في عينيه المتعبتين قصائد من ماء ونور لطالما قرأها لي في الماضي.
جلست قربه لساعات وأنا أراقب أنفاسه، وأعدها نفساً نفساً.
جاء الكاهن غرفته وصلينا معاً… بعد حوالي أربع ساعات شهق أبي شهقته الأخيرة صرخت: مات أبي!
أسرع الطبيب فحصه وقال لي: آسف ثيو فارقنا.
لا. أبي لا يموت. روحه معي. ساكنة داخلي.
اليوم كتبت رسالة طويلة للدكتور شمّا. هذا الطبيب هدية من السماء رفعني إلى أحضان أبي لأعيش معه لحظاته الأخيرة رغم المسافات والإغلاق والوباء.
طوبى لطبيب يحمل جناحي ملاك!
تزامن عيد الفصح مع موت أبي. كنت أشعر بغمامة سوداء تلفني من رأسي حتى قدميّ ولم تكن عندي القدرة النفسية على معايدة أهلي وأصدقائي. مع العلم أني من عائلة كاثوليكية تهتم جداً بطقوس العيد وتفاصيله.
فرحيل أبي لم يكن عادياً أبداً. لقد ترك ظلاله الكثيفة تشتد حول أنفاسي المتعبة أصلاً من ثقل الحياة.
بعد حوالي ثلاثة أسابيع جاء شهر رمضان المبارك. فقررت أن أتحدى حزني وأبارك لأخوتي المسلمين بحلول الشهر الفضيل. في اليوم الأول نشرت الفاتحة على صفحتي الفيسبوكيّة وبعد مرور أيام قليلة نشرت آية قرآنية قريبة جداً من روحي:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.
اتصلت بي صديقتي، وهي مسيحية، بعد رؤيتها للمنشور وقالت إنها غاضبة مني، لأني هنأت المسلمين بعيدهم ولم أهنئ عائلتي وأصدقائي المسيحيين بعيد الفصح.
حاولت أن أشرح لها أن أعياد الآخرين أهم من أعيادنا. نحن في زمن نحتاج أن نهتم بالآخر المختلف عنا ونعبر عن محبته واحترامه كي نزرع السلام.
نحتاج أن نفرش المحبة أينما حللنا لنخفف من الانقسامات والفتنة والرداءة المنتشرة في العالم حولنا.

المحبة لا تسقط أبداً!

لم تمر أيام على نقاشي مع صديقتي، حتى شاهدت قصة هزتني من داخلي، وكأنها رسالة من السماء تؤكد أن المحبة هي اللغة الوحيدة التي تجمع البشرية.
إنها قصة الأب ماريو حدشيتي.
قصة اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي بسرعة البرق وشقت طريقها نحو عدة قنوات عربية أبرزها «سكاي نيوز» عربي لما تحمله من رسالة إنسانية عميقة. انتقل أبونا ماريو حدشيتي الراهب الفرانسيسكاني اللبناني الأصل من لبنان إلى الخدمة في فلسطين منذ أكثر من تسع سنوات. ومنذ وصوله حرص على نشر قيم المحبة والتسامح والأخوة بين سكان مدينة أريحا، حيث كانت رعيته ليصبح ذائع الصيت في البلاد.
هكذا بدأ بمبادرة أثرت في سكان المنطقة وأصبح يضرب به المثل في المحبة والعطاء.
لقد حول كنيسته إلى حضن يحتوي الجميع، المسلم قبل المسيحي.
هناك في بهو الكنيسة يقف أمام طاولة مليئة بسلل القش. يضع في كل سلة قنينة ماء وبعض التمر ثم يحملها ويخرج بها إلى الشوارع. يجوبها وهو يوزع التمر والماء على كل متأخر عن موعد الإفطار.
حين رأيته يملأ السلة بالتمر والماء تذكرت سلة عيد الفصح المليئة بالبيض الملون. وكأن السلة نفسها تتسع لأعياد الجميع.
يقول بمحبة كبيرة: إنها رسالة لأخي المسلم. أردت أن أعلمه بأني أدعو له بالخير وأشجعه وأشكره لأنه يصوم.
تعاليمنا تقول:
المحبة لا تعرف إلا المحبة.
مبادرة لاقت ترحيباً وفرحاً كبيرين في قلوب سكان مدينة أريحا شرقي الضفة الغربية.
قال سائق سيارة وهو يستلم من الأب ماريو حدشيتي سلة التمر والماء: الله يسلم يديك يا أبونا.
لم يكمل السائق جملته ليرتفع صوت الآذان، وكأن ذلك الصوت اختار تلك اللحظة ليؤكد على التآخي والتضامن.
«الأخوة تُبنى» يردد الأب حدشيتي. وكلنا نوجه صلاتنا وصومنا للرب.
إن الصوم تقشف وتضحية.
في أريحا، حيث يقف الجامع في وجه الكنيسة هناك صلوات كثيرة مشتركة. فآذان الجامع تصل إلى قلب الكنيسة. وأجراس الكنيسة تنده للجامع حباً. يقفان وكأنهما على وشك أن يمدا أيديهما الطاهرة ويعقداها ببعضها البعض ليفرشا لكل مؤمن جسراً مشتركاً من المحبة.
وجه الأب حدشيتي رسالة إلى العالم كله وفلسطين تحديداً:
في شهر رمضان المبارك، زمن الصوم. عيشوا المحبة انشروها.
الأب حدشيتي ملاك آخر كالدكتور شما، الذي أشرف على علاج أبي. كلاهما يحملان نوراً للعالم ومحبة ورحمة نحتاجها جميعاً وبشدة في هذا الزمن الصعب.
لنشرع نوافذنا الصغيرة حتى يدخل النور.

*كاتبة لبنانيّة

جديد الأخبار