
تتصاعد نُذر الخطر في قلب الساحل الأفريقي مع تمدّد الجماعات الإرهابية غرب مالي، واقترابها من الحدود المشتركة مع السنغال وموريتانيا، مستغلة «هشاشة الأوضاع الأمنية وتراجع الدعم الدولي عقب الانسحاب الفرنسي».
وحذّر خبير في الشؤون الأفريقية من «تهديد أمني متزايد سيواجه موريتانيا والسنغال في ظل تراجع الحضور الدولي الفاعل، وانسحاب قوى كبرى مثل فرنسا، وغياب بدائل إقليمية قوية قادرة على فرض الاستقرار»، مؤكداً أنه «إذا لم يُواكب هذا التمدد الإرهابي برد فعل إقليمي سريع وحازم، فإن حدود السنغال وموريتانيا قد تشهد تحولات درامية، ليس فقط على المستوى الأمني، بل على مستوى التوازنات الاجتماعية والسياسية».
بينما قلّل محلل سياسي نيجري من تأثير الإرهاب على السنغال وموريتانيا، مؤكداً «تركيز الجماعات المتطرفة حالياً وبشكل أساسي على دول تحالف الساحل الثلاث، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ولن تضطر إلى فتح جبهات جديدة».
واستهدفت جماعة «نصرة الإسلام» الموالية لـ«القاعدة»، عبر هجمات متزامنة، منشآت عسكرية في 7 بلدات غرب مالي، حسب بيان للجيش المالي أخيراً، حيث تم الاستيلاء على «ترسانة حرب حقيقية»، وفق ما نقلته «وكالة الصحافة الفرنسية»، في حين أعلنت الجماعة وقتها مسؤوليتها عن الهجمات و«سيطرتها الكاملة على ثلاث ثكنات وعشرات نقاط التفتيش العسكرية في هجمات منسّقة» في نيونو وديبولو وساندري وغوغي وكاييس ونيورو، بالإضافة إلى «قصف مدفعي على ثكنة» مولودو.
وأفادت «إذاعة فرنسا الدولية» أيضاً بأن البلدات التي استُهدفت بشكل متزامن تقع على طول الحدود مع السنغال وموريتانيا، البلدَيْن الأفريقييْن اللذَيْن تسعى جماعة «نصرة الإسلام»، من موقعها في مالي، إلى التوسع فيهما، حسب دراسة نقلتها «وكالة الصحافة الفرنسية» عن معهد تمبكتو، وهو مركز أبحاث يتخذ من دكار مقراً له.
وتأتي هذه الهجمات بعد نحو شهر من هجومَيْن كبيرَيْن ضد الجيش المالي، أولهما في 2 يونيو (حزيران) الماضي، على معسكر في مدينة تمبكتو التاريخية شمال مالي، بالإضافة إلى مطار المدينة، وذلك بعد يوم من غارة دموية أودت بحياة ما لا يقل عن 30 جندياً في وسط البلاد.
وبعد سلسلة من الهجمات المنسقة على الحدود مع السنغال وموريتانيا، أعلنت الجماعة الإرهابية فرض حصار على مدينة ونيورو دو الساحل، وكذلك مدينة كايس التي تُعد عصباً تجارياً بين مالي والسنغال وموريتانيا، وحال «نجاح الإرهابيين في تنفيذ ذلك يعني خنق التجارة الإقليمية وقطع الإمدادات الغذائية والوقود، وتعطيل الاقتصاد المحلي»، حسب «إذاعة فرنسا الدولية».
المحلل السياسي التشادي، الخبير في الشؤون الأفريقية، صالح إسحاق عيسى، يرى أن «تمدّد الجماعة في غرب مالي يهدّد بتقويض المنجزات الأمنية التي حقّقتها دول مثل موريتانيا، ويضع السنغال في اختبار لم تواجهه منذ أكثر من عقد، في ظل تراجع الحضور الدولي الفعّال، وانسحاب قوى كبرى مثل فرنسا، وغياب بدائل إقليمية قوية قادرة على فرض الاستقرار».
وأوضح عيسى لـ«الشرق الأوسط» أن «السنغال رغم استقرارها النسبي تعاني من تهميش بعض المناطق الحدودية مثل كيدوغو وكولدا، وهو ما يشكّل ثغرة يمكن أن تُستغل بسهولة من قِبل عناصر متسللة، وموريتانيا، التي راكمت خبرة أمنية معتبرة في مكافحة الإرهاب، قد تواجه تحدياً من نوع جديد إذا ما اتجهت الجماعات الإرهابية إلى استثمار النزعات العرقية أو القبلية لبناء حاضنة محلية ولو محدودة».
ولم يعد مجرد الإرهاب في الساحل مشكلة محلية، بل صار أزمة إقليمية ذات انعكاسات استراتيجية عميقة، وفق عيسى، الذي أكد أنه إذا لم يُواكَب هذا التمدد الإرهابي برد فعل إقليمي سريع وحازم، فإن حدود السنغال وموريتانيا قد تشهد تحولات درامية، ليس فقط على المستوى الأمني، بل على مستوى التوازنات الاجتماعية والسياسية، خصوصاً في المناطق الحدودية التي لطالما ظلّت مهمّشة، مما يُنذر بمرحلة جديدة من عدم الاستقرار في غرب أفريقيا.
وكثّفت «نصرة الإسلام» كذلك هجماتها في منطقة الساحل الكبرى خلال الأسابيع الأخيرة، مستهدفة ليس فقط مالي، بل أيضاً بوركينا فاسو والنيجر، المجاورتَيْن، اللتيْن تحكمهما أنظمة عسكرية قطعت تحالفها القديم مع فرنسا، القوة المهيمنة السابقة، منذ 2020، والتفتت عسكرياً وسياسياً إلى روسيا، وشكّلت تحالف دول الساحل في نوفمبر (تشرين الثاني)، وأعلنت انسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا.
وتتفرع جماعة «نصرة الإسلام» الموالية «لتنظيم (القاعدة)، التي تعدّ الأقوى نفوذاً وأكبر تهديد لمنطقة الساحل» حسب الأمم المتحدة، إلى استراتيجيات عسكرية وسياسية لتقويض مصداقية حكومات المنطقة، وتقديم نفسها على أنها بديل موثوق، وليس في مقدور الجماعة إرساء حكمها في المدن الكبرى مثل العواصم، لكنها تحكم البلدات بطريقة غير مباشرة عبر اتفاقات محلية تسمح لها بفرض الشريعة الإسلامية على السكان ومنعهم من التعاون مع الجيش وجباية إتاوات، حسب تقرير مطلع الشهر الحالي نقلته «وكالة الصحافة الفرنسية».
وفي يونيو (حزيران) الماضي، أصدرت الجماعة بياناً دعت فيه إلى «إقامة حكومة شرعية» يتولّى تشكيلها الماليون أنفسهم بعيداً عن الجيش وروسيا.
بينما يرى المحلل السياسي النيجري، السنوسي حامد، أن تركيز الجماعات الإرهابية منصب بشكل أساسي على دول الساحل الثلاث، ولا سيما في السنوات الثلاث الأخيرة، فهذه الدول قد أخلت قرى كاملة من سكانها وانعدمت فيها الحياة بسبب الإرهاب، ورأينا في الأيام الماضية اشتداد العمليات الإرهابية في وسط وغرب مالي.
ولن تتأثر الحدود الموريتانية والسنغالية بهذه التداعيات؛ إلا إذا أثارت حفيظة الإرهابيين عبر مساندة عسكرية لمالي أو غيرها، فعندئذ قد تدخل في مواجهة مع الإرهاب بشكل مباشر، وفق حامد، الذي لفت إلى أن السنغال وموريتانيا تعدّان من الدول الخالية من الجماعات الإرهابية.
عودة إلى صالح إسحاق عيسى الذي يرى أن «هناك ارتباطاً وثيقاً بين الخروج الفرنسي من مالي وتنامي نفوذ الجماعات الإرهابية في المنطقة، وإعادة ترتيب صفوفها وتنظيم عملياتها وظهور خلايا نائمة، خصوصاً أن باريس كانت تشكل القوة الرئيسية التي تحارب الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل على مدار عقود، ونجحت في ذلك. وحالياً الوجود الروسي يواجه تحديات أدت إلى اتساع نطاق الهجمات».
ويرجح عيسى أن «يكون هناك تدخل ضروري من دول الجوار» لمواجهة هذه الأزمة، خصوصاً أن التهديدات الإرهابية تتجاوز حدود مالي لتصل إلى دول مثل موريتانيا، والسنغال، والنيجر، وبوركينا فاسو، مقترحاً أنه «يمكن تشكيل قوات مشتركة» تقوم بمراقبة الحدود بشكل مكثف، وتنسّق العمليات العسكرية والاستخباراتية لمواجهة التنظيمات الإرهابية، لكن هذا التعاون يجب ألا يقتصر فقط على الجانب العسكري، بل يجب أن يتضمّن أيضاً الجوانب التنموية والاجتماعية لمكافحة الأسباب التي تؤدي إلى انتشار التطرف وفق نهج شامل.
ويتفق معه السنوسي حامد في أن من يستقرئ الماضي والأحداث فسوف يستنتج أن الحل العسكري لن يكون كافياً لدحر الإرهاب، في «ظل انتشار الفقر والجهل والفساد»، فهذه العوامل كفيلة بتنامي الإرهاب؛ حيث إن «المنظمات والجماعات المتطرفة تستغل تلك العوامل لتجنيد الشباب، مستخدمة في ذلك العواطف الدينية ومشاعر الغضب لدى الشباب والأحوال الاقتصادية السيئة».