كأس العالم 2022.. قصة نجاح

اثنين, 19/12/2022 - 10:48

نعيش هذه الأيام زخما معنويا وعاطفيا كبيرا، بفعل استضافة قطر لكأس العالم وما حف بهذه الاستضافة من تحديات، وبفعل وصول المنتخب المغربي للدور نصف النهائي وهو ما لم يسبق لمنتخب عربي أو أفريقي. كأس العالم بالنسبة لأي بلد مضيف فرصة تنموية كبيرة تحفزه على تعبئة موارده وعلى اختصار الزمن في تشييد بنية تحتية تستجيب للمواصفات العالمية، وهو بذلك استثمار كبير في الصورة الخارجية، وفي ما يسمى في العلوم السياسية والإستراتيجية "القوة الناعمة" (soft power)، وقد نجحت قطر في كل ذلك نجاحا محققا.

 

أريد أن أبدأ هذا المقال بـ3 مشاهد عالقة بالذاكرة، من بين أخرى كثيرة، عشتها في قطر:

المشهد الأول: يوم وصولي إلى الدوحة لأول مرة يوليو/تموز 2008، انقبضت نفسي من الحر الشديد وازدادت انقباضا من ندرة المساحات الخضراء ومن حواجز الأشغال وأكوام الأتربة على جنبات الطرق إلخ… اليوم -أي بعد 14 سنة فقط- أصبحت الدوحة مدينة الحدائق، حدائق ومنتزهات كبرى تضاهي بل تفوق أحيانا ما يوجد في الحواضر الغربية (كحدائق أسباير والبدع والخور وأكسيجين والريان والغرافة وبرزان ودحل الحمام وأم سنيم والمتحف الإسلامي إلخ…)، وحدائق عائلية صغيرة مسيجة، بألعاب مجانية للأطفال وأشجار باسقة في جل أحياء الدوحة، اختفت أتربة الأشغال الغبراء من المدن أو تكاد وأصبحت الدوحة مدينة تسر العين حيث حللت فيها، وأما بوابة الاستقبال أي مطار حمد الدولي فينبئك وحده عن التغير الهائل الذي ستلمسه في كل ركن وزاوية.

 

المشهد الثاني: حين جئت إلى الدوحة كان الوصول من بيتي إلى جامعة قطر حيث أعمل (20 كلم تقريبا) يستغرق ما لا يقل عن ساعة إذا خرجت السادسة صباحا، أما اذا تأخرت نصف ساعة في الخروج، فإن المدة قد تصل إلى ساعة ونصف الساعة، كانت رحلة يومية متعبة ذهابا وإيابا تستهلك كثيرا من الطاقة النفسية، حيث أشغال وحواجز في كل مكان وازدحام شديد ودوّارات مرورية تسبقها طوابير طويلة من السيارات. بعد سنوات معدودة، فتح طريق الشمال الذي خفف المعاناة. أما اليوم فالوضع مختلف تماما، حيث الطرقات الفسيحة والأنفاق الكبيرة والجسور الفارهة المتقاطعة في كل مكان واختفاء شبه كامل للدوّارات، مما اختصر قطع المسافات إلى ربع الوقت أو أقل؛ حواجز الأشغال المرهقة في كل مكان كانت تخفي الوجه الجميل الذي ستسفر عنه الدوحة شيئا فشيئا، وإرهاق الطريق كان الثمن الذي يدفعه جيل لتستمتع الأجيال القادمة بمدينة تليق بالكرامة الآدمية.

 

المشهد الثالث: يوم 5 يونيو/حزيران 2017، أعلن الحصار على قطر، كان يوما عصيبا وكان شبح الجوع وحتى الحرب يخيم على الأذهان، يومها كتبت تدوينة قلت فيها إن القيادة القطرية لم تقصر مع شعبها ولا مع أمة العروبة والإسلام، وإنها بذلت الوسع ذكاء وتخطيطا وعملا، وإن الله لن يخيبها وإن قطر ستخرج منتصرة من هذه المحنة… كان هذا يقينا عندي، ولكني كغيري من الناس عندي أطفال وأخشى أن أعيش المشاهد المؤلمة التي نراها على الشاشات في أصقاع عديدة من العالم، وكان فقدان الحليب أكثر ما يزعج من عنده أطفال، خرجت من العمل قبل الوقت وذهبت إلى اللاندمارك -المركب (المجمع) التجاري الأقرب للجامعة وقتها- بنية الاستباق وشراء الحليب وبعض المواد الغذائية، ففوجئت بأن الذكاء الجماعي جعل عددا كبيرا من الناس يفعل مثلي، كارفور مزدحم جدا وجناح الألبان الممتلئ عادة بحليب المراعي السعودي فارغ تماما وجناح الدواجن قاعا صفصفا.. المهم هو أنه بعد يوم واحد فقط، أي نعم يوم واحد، كان الحليب التركي يملأ الرفوف في كل المحلات التجارية وبعد أيام معدودة كان الحليب يتدفق من كل أنحاء العالم، من الكويت والمغرب وإيران والدول الأوروبية إلخ. وبعد أشهر معدودة، بدأ أول الغيث ونزل إلى السوق حليب قطري طازج ذو جودة عالية في قوارير زجاجية، وكان ذلك وجه من وجوه ثمرة امتلاك قدرات إدارية واقتصادية ولوجستية قابلة للتعبئة السريعة. عشنا سنوات الحصار بلا أي أثر للحصار؛ كان كثير من المواد الغذائية قبل الحصار يصل برا من السعودية، رفع مطار حمد الدولي التحدي وتجند تجار ورجال أعمال قطر وكانت طائرات الشحن العملاقة لا تكف عن الإقلاع والهبوط ليلا نهارا. والآن أصبح لقطر -إلى جانب مطارها- ميناء من أكبر الموانئ الإقليمية ولم يعد المنفذ البري سوى منفذ حدودي عادي لا شريان رئيسي للحياة.

 

من يعرف قطر عن قرب يدرك أن وراء النجاح الذي اقتطعنا منه هذه اللوحات عدة عناصر: أولها قيادة سياسية تسابق الزمن ذات روح قومية وإرادة حضارية وذكاء إستراتيجي لا تخطئه العين، وثانيها تخطيط تنموي إستراتيجي ينطلق من رؤية قطر 2030 ويقع تحيينه في خطط إستراتيجية وطنية دورية، ويتفرع بعد ذلك إلى خطط قطاعية في كل مؤسسات الدولة، وثالثها اختيار إستراتيجي كبير للنجاح في بناء قوة ناعمة ضاربة، وآخرها احترام القيادة السياسية العميق لثقافة وقيم ودين المجتمع، ويدرك أيضا أن ما صنع ويصنع قطر ليس الغاز والبترول وحده وإنما هو العناصر الأربعة الآنفة مجتمعة، وإلا فماذا صنع الغاز والبترول في عديد من الدول العربية؟

 

شرط القيادة

لو أردنا رسم صورة مجملة لنمط القيادة السياسية والإدارية في قطر لأمكن تلخيصها في عدة خصائص، أولها قيادة سياسية أمام شعبها لا وراءه، تلبي من تطلعاته أكثر مما يتوقع، وتفتح له من أبواب التأهيل أكثر مما يطلب ولا تمارس عليه أي عنف ثقافي. وثانيها المزج بين المركزية وسعة التفويض والمشاركة، بمعنى أن الإدارة خاضعة لتسلسل إداري صارم غير أن الصلاحيات الممنوحة للمديرين في مختلف المراتب الإدارية كبيرة والاختيارات والقرارات الكبرى تطبخ بكيفية جماعية عن طريق ورشات العمل وجلسات العصف الذهني والاستشارات إلخ. هذا المزيج ضمانة لترشيد القرار وسرعة ونجاعة تنفيذه، وأما ثالث هذه الخصائص، فهي التدريب الإداري والقيادي المستمر والتأهيل اللغوي للتواصل مع العالم وهو اختيار حيوي لاقتصاد منفتح يعتمد بدرجة كبيرة على التجارة ولبلد يريد أن يكون فاعلا ثقافيا لا مجرد مفعول به، وأما آخر هذه الخصائص، فالجمع بين الحساب والشجاعة وهو جوهر السياسة، فالقيادة السياسية القطرية تعطي بيد وتأخذ بيد، السيادة عندها ليست جعجعة لفظية ومعارك دونكيشوتية تخفي أحط ضروب الاستسلام، ولكنها اعتبار واقعي للمحددات الموضوعية لا يتنازل في موضع إلا ليكسب في آخر، وفق معادلة دقيقة للربح والخسارة والمغامرة وتقدير موازين القوة، وهو ما يحول دون القفز في المجهول ودون التفريط في الاختيارات الوطنية والقومية في آن واحد.

 

كثر يظنون أن الاختيارات الثقافية والقومية لقطر (الاعتزاز بالهوية، دعم الربيع العربي، الإعلام الحر…) هي اختيارات القيادة السياسية العليا فقط، غير أن من إيجابيات الحصار أن أظهر النخبة السياسية والثقافية والاقتصادية القطرية في وسائل الإعلام، اكتشفنا نخبة قطرية واسعة مشبعة بالاختيارات الكبرى لبلدها وملتفة حولها. حتى تصبح الخيارات الكبرى خيارات مؤسساتية راسخة، يتعين تكوين نخبة مشبعة بها وبناء تقاليد إدارية حامية لها وإطار مرجعي موجه للممارسة السياسية والإدارية وهذا كله حاصل بأقدار كبيرة.

 

شرط التخطيط

 

من المعروف أن قطر انتهجت التخطيط التنموي منذ وضع رؤية قطر 2030 في أكتوبر/تشرين الأول 2008، يساعدها في ذلك مخزون من الغاز يكفي بالموازين الطاقية الحالية لـ200 سنة قادمة، تقوم رؤية قطر على اختيارات واضحة وفعالة في التنمية والتحديث تشكل في مجملها فكرة قطر أو صورة قطر المتخيلة والمأمولة بحلول عام 2030، أول هذه الاختيارات هي التنمية المستدامة، والمقصود بها في السياق القطري هو حق الأجيال القادمة في العيش الكريم بعد نفاد الموارد الهيدروكربونية (بما أنها موارد غير متجددة)، وينبني على هذا الاختيار الأول اختيار ثان، وهو التنويع الاقتصادي أي تنويع موارد الدخل الاقتصادي وتخفيف وطأة الارتهان للاقتصاد الريعي، وهو ما تجسد في بعث صندوق قطر للاستثمار، وهو صندوق ثروة سيادي لاستثمار فوائض مداخيل الغاز والنفط في الأسواق العالمية، كما تجسد في الاتجاه التدريجي نحو التصنيع (تضاعف حجم الصناعة القطرية بعد الحصار) ونحو حل مشكل الأمن الغذائي لبلد تشح فيه الموارد المائية ولا يملك -تبعا لذلك- تقاليد زراعية (استثمارات فلاحية لشركة حصاد الغذائية في عديد من بلدان العالم بعد الحصار؛ وفي سنوات معدودة حققت قطر الاكتفاء الذاتي من الألبان والدواجن وأدخلت السوق منتجات زراعية محلية بجودة معتبرة.

 

الاختيار التنموي الثالث والأعسر يتمثل في الاتجاه التدريجي نحو اقتصاد المعرفة القائم على الإبداع والابتكار والبحث العلمي (المنتج الجديد الذي يمكن أن يغزو السوق هو باستمرار فكرة مبدعة تتشكل في ذهن مبدع في مكان ما من العالم) وهذا الانتقال يستدعي ابتداء إحداث نهضة تعليمية ونشر ثقافة البحث واستقطاب وبناء القدرات العلمية والبحثية وهو ما خطت فيه قطر خطوات محترمة، خاصة في مجالات الهندسة والإدارة والاقتصاد.

 

وأما الاختيار التنموي الأخير، فيتمثل في المرافقة القيمية والمعرفية للانعكاسات الاجتماعية والثقافية للانفتاح والتحديث السريعين، من المعروف أن عدد الأجانب من جنسيات وثقافات وديانات متعددة يفوق عدد المواطنين عدة مرات في دول الخليج، باستثناء السعودية، وهو ما يستدعي سياسات ثقافية تحترم اختيارات المجتمع وتضمن تطوره بتحرير قواه الثقافية والقيمية المختزنة وقدرته على التجدد بدون صدمات ولا تعنيف ثقافي. ولا شك أن هذا الاختيار قد تجلى كما لم يحصل من قبل في دورة كأس العالم التي تستضيفها قطر، وهو ما سنعود إليه في العنصر الأخير، إن شاء الله.

 

الذكاء الإستراتيجي واختيار مسلك القوة الناعمة

 

القوة الناعمة مفهوم تبلور في العلوم السياسية مع المفكر الأميركي جوزيف ناي (Joseph Nye) بداية التسعينيات من القرن الماضي، وهو يعني أن مختلف مظاهر التميز الثقافي والحضاري لبلد ما (تراث مادي ومعنوي، خبرات عمرانية، اختيارات قيمية، قدرات إقناعية ووسائل تأثير وقدرة على تشكيل الوعي، إلخ) تدخل في معادلات القوة بين الدول، ويمكن أن تكون موضوعا للاستثمارات والحسابات الإستراتيجية. مفهوم القوة الناعمة لدى جوزيف ناي يشبه مفهوم رأس المال الرمزي أو السلطة الرمزية لدى بيار بورديو، مفهوم القوة الناعمة حاضر بقوة أيضا لدى رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو في كتاب "العمق الإستراتيجي". قطر التقطت مفهوم السلطة الناعمة منذ مجيء الأمير الوالد الشيخ حمد للحكم وجعلت هذا المفهوم حجر الزاوية في اختيارها الإستراتيجي لمعادلة القوة التي يتحملها وضعها الجيوسياسي.

 

المحاور التي اختارتها قطر لسلطتها الناعمة حسب فهمي 5 محاور: أولها حرية التعبير وحق الخبر والمعلومة، الثاني محور السلام العالمي، الثالث حق أطفال دول الجنوب في التعليم، الرابع ثقافة الرياضة وتوجيه الانفعالات المرافقة للرياضات الجماهيرية، وأما الخامس والأخير -وهو رافعة لكل ما سبق- فالنجاح التنموي والعلاقات الاقتصادية والقوة المالية الضاربة.

 

اختارت قطر لقوتها الناعمة 5 أوعية، أولها الإعلام وإمبراطورية الجزيرة شاهد على ذلك، لقد سرعت الجزيرة الزمن السياسي العربي ورفعت منسوب الوعي بالحرية كباب للمستقبل، وأصبحت في وقت قياسي مصدرا عالميا للخبر ومنافسا للإمبراطوريات الإعلامية الغربية، الجزيرة تعزف أنغام الحرية بأنامل الإعلاميات والإعلاميين المحترفين، بصرف النظر عن اختياراتهم الفكرية والدينية وتعزف أنغام الشرق على أوتار الغرب إلخ. الجزيرة صنعت كثيرا من الخصوم في العالم، ولكنها ألقمت الجميع حجرا لأنها حملت قيمة كبرى من القيم الكونية فعلا للحداثة، بسببها ناصبت العديد من الدول قطر العداء، وحاولت مقايضتها لتغيير خطها التحريري، ووصل الأمر إلى أن هدد جورج بوش بقصفها، ولكن القيادة القطرية كانت في الموقع الرمزي والأخلاقي الأقوى، ولم تقبل التفاوض على الجزيرة.

 

وأما الوعاء الثاني للسلطة الناعمة القطرية، فهو الدبلوماسية والعلاقات الدولية، لقد عملت قطر على 3 محاور دبلوماسية كبرى، هي فض المنازعات والوساطة في نزع فتيل عدة خلافات إقليمية من جهة، ولعب دور الدولة المفتاح للملفات الصعبة من جهة أخرى، وأخيرا القدرة على التشبيك المسموح به في العلاقات الدولية، الدبلوماسية القطرية نشيطة جدا كما هو معروف ومتمكنة من أدوات وقواعد الدبلوماسية، وقد صنعت لنفسها نهجها الدبلوماسي الذي أثبت فاعليته في مواجهة الحصار.

 

الوعاء الثالث للقوة الناعمة القطرية هو نشر التعليم في المناطق الفقيرة من العالم وقد تمكنت من تعليم أزيد من 7 ملايين طفل حول العالم.

 

الوعاء الرابع هو الرياضة، قطر تستثمر في الرياضة لـ3 أهداف: الهدف الأول هو المقصد الأصلي للرياضة أي الصحة الجسدية والنفسية لمواطنيها ومقيمها، الهدف الثاني سياسي محلي ويتمثل في إسهام الرياضات الجماهيرية في تعميق حس الانتماء الوطني وصناعة الروح الوطنية (إلى جانب الاهتمام بالذاكرة الجماعية والشخصيات المؤسسة والأحداث التأسيسية والأعياد الوطنية إلخ).

 

وأما الهدف الثالث وهو الذي يهمنا هنا، فهو الاستثمار في الرياضة بوصفها جزءا من بناء الصورة الخارجية والقوة الناعمة.

 

لقد ألفنا في العلوم الاجتماعية النظر للرياضات الجماهيرية على أنها مجال لتنفيس الاحتقانات الاجتماعية وللسماح بالتعبير عن الانفعالات الجامحة والتوترات النفسية بغير المألوف من طرق التعبير، وعلى أنها مجالات للإشباع الاستيهامي لمشاعر ورغبات وتعلقات قيمية دفينة في الإنسان كمشاعر الانتماء الجهوي أو الوطني إلخ، وكرغبة إخضاع التنافس والصراع –وهي أبعاد رئيسية للاجتماع– لقواعد العدالة والشفافية التي تفتقدها جل المنافسات الاجتماعية والسياسية، فالرياضات الجماهيرية الحديثة تجري أمام الجمهور، وفق قواعد تحكيمية عادلة شفافة متعارف عليها، مما يجعلها مجالا مثاليا للإشباع الرغبي التعويضي لهذه التعلقات، هنا نتحدث عن دور الإشباعات التعويضية والاستيهامية في تصريف الانفعالات العنيفة وخفض التوترات الاجتماعية إلخ.

 

لا شيء من ذلك في استثمار قطر في الرياضة، لماذا؟ لأن الشعب القطري من أكثر شعوب العالم رفاهية، لا توجد توترات اجتماعية أو انفعالات سياسية عنيفة تذكر تحتاج إلى تنفيس أو تصريف وهمي، قطر تنظر للرياضات الجماهيرية على أنها لغة تواصل كوني ومن أنسب المجالات للوصول إلى الرأي العام العالمي، ولتوصيل رسالة ثقافية كبيرة: أننا بوصفنا دولة عربية مسلمة نستثمر في المشترك الإنساني وفي ما يخدم الحياة والشباب والصحة الجسدية والنفسية والتواصل والتعارف بين الأمم والشعوب وإسعاد الناس. سنعود لهذه المعاني في العنصر الأخير أي في رسائل قطر الثقافية في كأس العالم 2022.

 

الوعاء الخامس والأخير للسلطة الناعمة لقطر هو الاقتصاد، نعرف أن قطر ترتبط بتبادلات تجارية واستثمارات ضخمة وعقود لتصدير الغاز المسال مع عشرات دول العالم وأنها قد اكتسبت في كل ذلك خبرة كبيرة وعلاقات متينة، ونعرف أيضا أن لغة المصالح هي إحدى اللغات الرئيسية للعلاقات الدولية وأن النجاح في بناء شبكة مصالح مشتركة واسعة نجاح في بناء حزام أمان سياسي قوي وهو ما تمكنت قطر من فعله باقتدار.

 

كخلاصة، يمكن أن نستحضر وصف "القوة الناعمة العشية" الذي أطلقه الدكتور عبد العزيز الحر على الاختيارات الإستراتيجية القطرية، يقول الحر بأن القوة الناعمة لقطر تشبه عش الطير الذي يبنى من أعواد هشة عودا عودا، ولكن حين يكتمل بناؤه يصبح قادرا على الصمود أمام الرياح العاصفة، لقد أثبتت إنجازات قطر وأزمة الحصار أن عائدات الاستثمار في القوة الناعمة والصورة الخارجية والسلطة الرمزية كبيرة ومحققة.

 

الرسائل الثقافية لكأس العالم 2022

 

كأس العالم 2022 هي كأس الصراع بين القيم حسبما وصفها الدكتور فيصل القاسم، أو الصراع بين الرموز الثقافية كما وصفها الدكتور خالد شوكات من تونس، وهذا صحيح بشرط أن لا يفهم من هذا أنه صراع بين جمهورين للكرة أو داخل جماهير المشجعين، لقد ثبت عكس ذلك، فجل الجمهور الحاضر لهذه الكأس منبهر بقيم الضيافة العربية وبالأجواء الآمنة التي جرت فيها المباريات وتفاعل بكثير من الإيجابية والاحترام مع قيم البلد المضيف.

 

منذ اقترب موعد انطلاق كأس العالم بقطر، توالت الضغوط الثقافية وتكثفت خاصة في موضوع الشذوذ أو ما يسمى "المثلية"، لأن القبول بالانتهاك الأقصى لحدود المعروف القيمي يعني القبول بما دونه، كان يراد لتنظيم كأس العالم أن يكون سهما ثقافيا مسموما يضع القيادة القطرية في مواجهة شعبها ومواجهة جماهير المشجعين العرب والمسلمين، وكان يمكن للقيادة القطرية أن تسلك مسلكا براغماتيا وأن ترى أن غض الطرف لمدة شهر لا يضر أمام المنافع التي ستجنيها من تنظيم الكأس، ولكن هذه القيادة كما ألفناها، لا تتردد في المواقف الحاسمة ولا تقفز في المجهول في آن واحد، بل تتخذ لكل موقف عدته بالعمل على تعظيم منافعه وتقليل مخاطره. لقد اختارت القيادة القطرية أن تواجه الضغوط القيمية برسائل عميقة وهادئة وبأن تفسح المجال للمجتمع القطري ولجمهور المشجعين العرب بأن يدافع عن اختياراته الثقافية بالوسائل التواصلية والإقناعية الحضارية.

 

ما الرسائل الثقافية لكأس العالم 2022، سواء تلك التي برمجتها القيادة القطرية أو التي أرسلتها جماهير المشجعين بعفوية؟ يمكننا إجمال هذه الرسائل في النقاط البرقية الآتية:

 

كأس العالم فرصة استثنائية للتعارف بين المشجعين من مختلف أصقاع العالم، ومجال للتواصل ولإخراج كل لأحسن ما فيه، وليست مجالا للهيمنة الثقافية أو لإخراج الإنسان الغربي لأخبث ما فيه وفرضه على بقية العالم.

 

المناسبات الجماهيرية العالمية فرصة للتواصل وليخرج كل ما عنده، وقد أثبتت هذه الدورة لكأس العالم أن العملة الثقافية الجيدة تطرد الرديئة، وأن عموم المشجعين من مختلف أصقاع الأرض لا شأن لهم بإكراهات لوبيات المال والسياسة الغربيين وأن الناس ينفعلون بقيمك حين تعرض عرضا حضاريا راقيا، وأن الآخرين يحترمونك إذا احترمت نفسك وأنك تهون عليهم حين تهون على نفسك.

 

أثبتت هذه الدورة للكأس أن التواصل الثقافي والحضاري لا يقتصر على الثقافة العالمة والعميقة، ولكنه يمكن أن يتم بفاعلية بأكثر الرموز والممارسات الثقافية والقيمية بساطة وعفوية، بكرم الضيافة وحسن الاستقبال وتوزيع الحلوى في الشوارع وتقبيل رأس ويد الأم واحتضان الزوجة والأبناء وبالصوت الجميل للأذان وكأس الشاي المنكه بالمنسمات الشرقية… نعم التواصل الثقافي العالمي العميق أبعد أثرا، لأنه يشتغل على الكود العميق للحضارة وهو شأن النخبة، وأما التواصل الأفقي الجماهيري فكل الرموز الثقافية (سمعية، بصرية، مظهرية، سلوكية، غذائية، ترفيهية، معمارية، إلخ) من وسائله.

 

أثبتت هذه الدورة لكأس العالم أن جاذبية التواصل بين الشعوب يمكن أن تكون أقوى من جاذبية التنافر، وأن لذة اكتشاف الآخر المغاير ثقافيا يمكن أن تكون أقوى من لذة انتهاك المحرمات وحدود القيم والأخلاق، وأن الخمور وعنف الملاعب والشعارات الصادمة للفطرة ليست قدرا ثقافيا للرياضيات الجماهيرية، وأنه بتأطير أخلاقي وقانوني معقول يمكن للمدرجات أن تتحول إلى إطار آمن للفرجة للجنسين وللأسر بكبارها وأطفالها.

 

كأس العالم 2022 أظهرت المعنى الغني والحقيقي للتعدد والاختلاف الثقافي والحضاري بين الشعوب، أزاحت الأقنعة المزيفة للتعدد والاختلاف التي فرضت على العالم، أرادت العديد من القوى السياسية الغربية تكثيف دلالة التعدد والاختلاف في الشذوذ وانتهاك الفطرة والخروج على الطبيعة أو في ما يسمى بالتحول الأنثروبولوجي (ذروة الحداثة!!!) وإخفاء الوجه القبيح المتخفي وراء كل ذلك، وجه الإسلاموفوبيا ونبذ الاختلاف الجاد الذي يمكن أن يطعم الغرب بأسباب جديدة للحياة، أرادت أن يحجب المعنى المزيف للاختلاف معناه الحقيقي وأن تصرف الاعتراف بالتعدد والتنوع وهو قيمة إنسانية كبرى إلى دلالة مزيفة وقمعية، وأظهر التفاعل الإيجابي لجماهير المشجعين مع قيم البلد المضيف الوجه الحسن للاختلاف: إنه مجال للتواصل والتعارف واحترام الآخر وليس مجالا للإبادة القيمية والإملاءات الثقافية.

 

"لا تفرض عليّ خياراتك المريضة في عقر داري وضد قيم شعبي"، هذه هي رسالة قطر في صورتها البسيطة، وأما جماهير المشجعين من العرب وأحرار العالم، فذهبت إلى أبعد بكثير: النبذ والوصم الذي يتعرض له شرفاء الأوطان على يد عملاء الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية قابله المشجعون بنبذ تلقائي للإعلام الصهيوني، هذه هي البوصلة الحقيقية للنبذ والعزل والإبعاد، نبذ المعتدين على حقوق الشعوب.

 

الصدمات الشعورية واللقطات الاستعراضية لإحداث الفرجة بالمنكر في مثل هذه المناسبات قوبلت بلقطات استعراضية وإحداث للفرجة وهز لأوتار الحساسية الأخلاقية بشعارات وأعلام أعدل قضية، أي القضية الفلسطينية.

 

تحرص اللوبيات المروجة والحارسة لأيديولوجيا المثلية الجنسية في الغرب على صناعة وهم القضية وحجب القضايا الحقيقية للناس، على الإيهام بإعلاء "المثلية الجنسية" إلى التزام نضالي وقضية نضالية، قضية عالم مفقر معنويا، شحت ينابيعه الروحية والقيمية، قضية من لا قضية له ولا عمق لوجوده، وأما قسم كبير من المشجعين، فقد وجه أنظار العالم نحو المعنى الحقيقي للقضية والتعلق بقضية.

 

خلاصة

فوجئ كثر برفض قطر للإملاءات الثقافية والإكراهات القيمية في تنظيمها لكأس العالم، بل وبحرصها على تأطير ثقافي تواصلي مختلف منسجم مع المعروف القيمي، وفوجئ كثر من المتابعين في أصقاع العالم أيضا بمستوى التطور العمراني للدوحة وبالقدرات التنظيمية واللوجستية الباهرة.

 

أراد هذا المقال أن يكشف أن وراء هذا وذاك قيادة وإرادة تمتلك الذكاء الإستراتيجي، ومتمكنة من أدوات الاقتصاد والدبلوماسية والتخطيط، ومعتزة بانتمائها وإرثها الحضاري، وأن الحرص على تنظيم كأس العالم لم يكن مجرد رغبة استعراضية، ولكنه كان التقاطا لفرصة تنموية وركنا في بناء القوة الناعمة.

لقد استطاعت قطر منذ عام 1995 إلى الآن اكتساب خبرات مهمة في التجارة والاستثمار والدبلوماسية وإدارة المشاريع الكبرى وبناء القدرات المعرفية في المجالات ذات الأولوية التنموية، كما استطاعت تغيير وجهها العمراني بما يستجيب للمواصفات العالمية ولاحتياجات قاطنيها، أظن أنه بهذا بلغت مرحلة من التخطيط التنموي غايتها، وأصبحت هناك حاجة ملحة لمرحلة أخرى يكون على رأس أولوياتها توطين التكنولوجيا وهذا حديث آخر

جديد الأخبار