بعد أن ظل يكافح سنوات لإقناع مختلف دول المغرب العربي لكبح جماح الهجرة غير النظامية إلى أراضيه، يرمي الاتحاد الأوروبي اليوم بثقله على موريتانيا التي تعاني من تدفق متواصل للمهاجرين واللاجئين نحو أراضيها.
وفي الوقت الذي كانت تتجاهل فيه أغلب هذه الدول الضغوط الأوروبية وظلت ترفض أي إجراء لإعادة اللاجئين غير النظاميين إليها، يبدو أن موريتانيا بدأت -مؤخرا- تتخلى عن تحفظها لتساوم القارة العجوز في قضية المهاجرين المؤرقة لها.
وفي آخر زيارة لهما إلى البلاد، أكد كل من رئيسي الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين، والحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز -أمام الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني- أن الاتحاد وإسبانيا سيخصصان أكثر من 500 مليون يورو لنواكشوط لتعزيز قدراتها في مجال التنمية الاقتصادية والتصدي للهجرة غير النظامية ومساعدة اللاجئين الموجودين داخل أراضي البلاد.
وأيقظت هذه الزيارة هواجس أمنية واجتماعية قديمة لدى موريتانيا التي تمتاز بتنوع عرقي يعكسه موقعها الجغرافي الرابط بين المنطقة المغاربية وغرب أفريقيا وجنوب الصحراء.
قلق وجدل
لذلك خلفت زيارة المسؤولين الأوروبيين قلقا وجدلا واسعين بين الموريتانيين الذين لم يرتاحوا لظاهرة الهجرة التي تخترق بلدهم الهش، أو لفكرة التوطين والاندماج التي قد تكون بداية استقرار نهائي للهاربين من جحيم المحيط المتوتر، تخوفا من تغير ديمغرافي قد يكون محتملا.
ويضم المجتمع الموريتاني تركيبة فسيفسائية معقدة، حيث يتكون من مجموعتين ثقافيتين:
فئة البيضان المتألفة من العرب والبربر الناطقين بالحسانية، وهي الفئة الغالبة سياسيا وتمثل قرابة 80%.
غير أن ما يميّز موريتانيا هو أن الفئة الموازية، للأغلبيّة العربية، زنجية وتمثل ما يزيد على 20% من السكان.
وخلال السنوات العشر الأخيرة استقبلت موريتانيا مئات الآلاف من اللاجئين والمهاجرين أصبحوا يمارسون أنشطة اقتصادية مختلفة، ولأن أغلبهم من الأفارقة أصبح من الصعب التفريق بينهم وبين الموريتانيين من فئة الزنوج في ظل غياب إستراتيجية تضبط حركة الهجرة بدقة.
وخلال احتجاجات شهدتها البلاد السنة الماضية، ضبطت الشرطة عشرات الأجانب من المهاجرين والمقيمين الذين شاركوا في مظاهرات وأعمال شغب خطيرة بالعاصمة نواكشوط ومدن داخلية، على أنهم مواطنون، ورحّلتهم السلطات إلى بلادهم.
وتحول هذا الإشكال إلى تحدّ مصيري في ظل التدفق المتزايد للمهاجرين الذي بلغ عدد المقيمين منهم حاليا بشكل قانوني 140 ألف نسمة، حسب الحملة الوطنية لتسجيل وضبط وتنظيم حركة المهاجرين داخل البلد.
وهذا بالإضافة إلى نحو 150 ألف لاجئ في مواقع متفرقة من البلاد، أغلبهم في مخيم "امبرة" بولاية الحوض الشرقي، ومئات آلاف المهاجرين غير النظاميين الذين لم يتم إحصاؤهم حتى الآن، وفق توقعات مراقبين كُثر.
وأكد الأمين العام لوزارة الداخلية واللامركزية محمد محفوظ ولد إبراهيم أن موريتانيا لن تكون وطنا بديلا للمهاجرين غير النظاميين، وأن الشركاء الأوروبيين لا يجرؤون على طرح هذا الطلب.
وأضاف أن نجاح مقاربة موريتانيا في مجال ضبط تدفق المهاجرين النظاميين واللاجئين داخل البلد، ومحاربة كافة أشكال الهجرة غير النظامية، هو السبب وراء دعم الاتحاد الأوروبي لها.
اجتماع القمة الاوروبية الموريتانية الاسبوع الماضي للجزيرة نت
اجتماع القمة الأوروبية الموريتانية الأسبوع الماضي وإعلان تخصيص أكثر من 500 مليون يورو (الجزيرة)
اتفاقيات مبهمة
في حديثه للجزيرة نت، يقول المحلل السياسي والناشط المدني ضد الهجرة محمد خالد أحمد سالم أتويف إن الاتفاقيات المبهمة والفضفاضة، في الكثير من بنودها مع الاتحاد الأوروبي، ستجعل من موريتانيا محطة لمئات الآلاف -وربما الملايين- من المهاجرين الأفارقة الذين يؤرقون المسؤولين الأوروبيين.
وأضاف أحمد سالم أن موريتانيا -في ظل بنية اقتصادية وأمنية وخدماتية وصحية هشة- غالبا لن تحتمل هذا العبء الثقيل من الوافدين والعائدين من أعالي البحار.
ويرى أن المسار الساعي لإدماج المهاجرين قد يؤدي -على المدى القريب- إلى عجز تام وتوقف الخدمات العمومية، أو شلل اقتصادي ومشكل أمني يعصف باستقرار البلد. وعلى المدى البعيد، ومع هجرة شبابية معاكسة تشهدها موريتانيا نحو أميركا، قد تكون له تبعات أخرى تتعلق بتغير ديمغرافي في التركيبة السكانية السنوات المقبلة.
ويتخوف المواطن محمد أحمد (التاجر بالسوق المركزي في نواكشوط) -في حديثه للجزيرة نت- من أزمة اجتماعية واقتصادية جراء عملية توطين المهاجرين الأفارقة وإدماجهم.
ويقول "ستكون لها عواقب وخيمة على البلد أمنيا واقتصاديا بالنظر إلى أن أغلب المشغلين في السوق يفضلون العمالة المهاجرة لأنها تطلب أجورا زهيدة لا يستطيع المواطن العادي العمل بها مطلقا".
ولهذا السبب يحذر أحمد سالم من تفريط موريتانيا في استقرارها النسبي الملاَحَظ، الذي جعلها بؤرة الاهتمام الأوروبي والإسباني كحليف بإمكانه لعب دور "أكبر من حجمه الحقيقي" لتحقيق إستراتيجيات أوروبا في المنطقة فيما يتعلق بكبح ما سماه السيل الأسود المتدفق عبر أفريقيا.
في المقابل، يقول الناشط المدني المختار حمادي إنه لا يمكنه الدفاع عن المهاجرين الموريتانيين في الخارج، ويسكت عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين الأفارقة في بلاده.
ويؤكد أنه على الدولة أن تكون يقظة وتطوّر من أجهزتها الأمنية وتكون صارمة في تطبيق القوانين المتعلقة بمكافحة الهجرة وتتفادى المخاطر، لكن مع ضمان حقوق المهاجر.
اختلالات قيمية
وفي حديثه للجزيرة نت، يقول الباحث في علم الاجتماع جامعة نواكشوط باب سيد أحمد أعل إن هناك اختلالات قيمية في المجتمع لعلها هي من تدفعه ليتجرع خطر الهجرة، ومنها:
أن فئة البيضان -المتغلبة سياسيا واقتصاديا- لا تقدس العمل في طبعها وتنبذه في ثقافتها، وهو ما يُوجِد الفراغ للمهاجرين نظرا للحاجة الماسة لليد العاملة.
وتبحث هذه الفئة عن الثراء الفاحش دون مقدمات بشكل يجعل المجتمع مغامرا، وليست الهجرة للولايات المتحدة والبحث عن الذهب إلا من تداعيات واستحكام تلك القيم.
كما توجد موريتانيا في محيط مضطرب يعاني من مشاكل الاستقرار السياسي والحروب الداخلية، وضعف الأنشطة الإنتاجية، مما يجعل منها وجهة لشعوب تلك الدول بحثا عما فقدوه في أوطانهم، فيجدوا فيها المجال مفتوحا بفعل عزوف المجتمع عن الإنتاج وترفّعه عن المهن اليدوية.
ويعتقد الباحث أن الإشكال المطروح الآن هو كيف تستفيد موريتانيا كبلد عبور أو مضيف -اقتصاديا- من هذا الكم الهائل من النازحين والمهاجرين، مهما كانت مستوياتهم وطبيعة دوافعهم ما دامت هناك حاجة لهم تشجعها نظرة المجتمع للمهن اليدوية والعمل عامة
خضر عبد العزيز
الجزيرة نت