
هذا الصباح، حول كوب شاي بسيط، دار بيني وبين رجل حرطاني حديث قصير لكنه كاشف. بدأ الحديث من غير تخطيط، في صمتٍ قطعه قول عفوي: “وضعنا صعب”. لم يكن يخاطبني مباشرة، بل كأنه يتحدث إلى نفسه، كمن يلقي حقيقة مُرّة في الهواء. لكنني تدخلت، بدافع الفضول لرأيه. قلت له: “ومع ذلك، فإن هذه القضية حاضرة بقوة في النقاشات، على وسائل التواصل الاجتماعي، في الإعلام، ويحملها شخصيات رفيعة المستوى…” فنظر إليّ وطرح عليّ سؤالًا مفاجئًا: “لكن، هل نحن من فوّضهم؟ من طلب منهم التحدث باسمنا؟”
هذا السؤال يستحق التوقف عنده. فهو يسلط الضوء على الهوة المتسعة بين الخطابات التي تُلقى باسم الحراطين، وبين الواقع الذي يعيشه غالبية صامتة، غير مرئية في كثير من الأحيان، مسحوقة تحت عبء البقاء اليومي.
في النضال ضد الظلم، صوت المظلومين أساسي. ولكن لا بد أن يكون هذا الصوت صادقًا، نابعًا من التجربة المعيشة، مرتبطًا بالأرض. فكثيرًا ما يُنظر إلى من يتحدثون اليوم باسم الحراطين – سواء بحق أو بغير حق – على أنهم شخصيات خرجت من الهامش إلى فضاءات اجتماعية أخرى، أحيانًا سياسية أو دولية. وهذا الصعود مشروع، بل ومُلهم. لكنه يطرح سؤالًا: عندما يرتقي الإنسان، هل يمكنه أن يتحدث من “الأسفل”؟ أم أنه يخاطر بأن يتحدث بدلًا ممن يدّعي تمثيلهم؟
قال لي مخاطبي: “ليس لدينا وقت لمتابعة وسائل التواصل الاجتماعي، نحن منشغلون بالبحث عن سبل البقاء.” هذه الكلمات قوية. فهي تعكس واقعًا قاسيًا: النضال من أجل الكرامة لا يبدأ من على المنابر، بل يبدأ في وحل الحياة اليومية، في البحث عن لقمة العيش، عن عمل، عن مأوى. وعندما تستهلك هذه المعركة كل طاقة الإنسان واهتمامه، لا يبقى مجال يُذكر للخطابات السياسية أو الاستراتيجيات النضالية من بُعد.
وهنا يكمن التناقض: الحراطين أصبحوا موضوعًا أساسيًا في النقاش العام الموريتاني، لكن كثيرًا من الحراطين أنفسهم لا يجدون أنفسهم في هذا النقاش. هذا التباين يجب أن يُثير الانتباه. فقضية ما، كي تكون عادلة ومشروعة، لا بد أن يحملها المعنيون بها أو، على الأقل، أن تُبنى في حوار حقيقي معهم. وإلا، فإنها تتحول إلى مشروع نخبة، مفصول عن تطلعات الشعب الحقيقية.
من الملحّ إعادة التفكير في أشكال التمثيل والتعبئة. لا يتعلق الأمر بانتقاد من نطقوا باسم القضية، وغالبًا دفعوا ثمناً باهظًا لذلك، بل بربط خطابهم من جديد بجذوره. ربما علينا أن نستمع أكثر، أن نخلق فضاءات تخرج فيها أصوات “غير المرئيين” بلا وسيط. وربما علينا أن نتخيل تمثيلًا أكثر أفقية، أكثر ارتباطًا، أكثر تضامنًا.
الشاي الذي شربناه هذا الصباح لم يكن مرًا من طعمه، بل من الحقيقة التي أعادها إلى السطح. ما دام الحراطين مجرد متفرجين على قضيتهم، فإن النضال سيبقى ناقصًا. والخطابات، مهما بلغت من القوة، ستظل مهددة بأن يتردد صداها في الفراغ.
إسلمو حنفي