فى الحادى عشر من أكتوبر 2012 أنهى الرئيس الموريتانى محمد ولد عبد العزيز آخر اجتماع للحكومة قبل بداية العام الجديد ( بفعل القوة القاهرة)، وغادر العاصمة نواكشوط فى سرب من ثلاث سيارات متوجها إلى بوادى إينشيرى فى حدود منتصف النهار.
لم يكلف الرئيس أعضاء الحكومة كثير عناء داخل الإجتماع الذى أستغرق ساعة و10 دقائق، منهيا الخلاف بين وزير الخارجية حمادى ولد حمادى والموظفة بنفس الوزارة فاطمة بنت حسنه مدير الشؤون الأوروبية بعد الخلاف الذى حط بمكتب الرئيس خلال زيارته لمالطا.
كان ولد عبد العزيز يخطط لراحة قصيرة بمنتجعه الواقع فى إينشيرى قبل التوجه إلى قمة الدول الفرانكفونية التي ستلتئم بالعاصمة كنشاسا مابين 13 إلى 14 من أكتوبر ، بعد أن كلف وزير الخارجية بالتحضير للقمة والسفر إليها فى انتظار مغادرة الرئيس مطلع الأسبوع.
أبلغ الرئيس قبل مغادرة الاجتماع الوزارى عن آخر الترتيبات الجارية فى الولاية (إينشيرى) من أجل تنظيم حفل فاخر لدفعة من المجندين المكونين في مركز تدريب الجيش بالمدينة، وقد أنتدبت الأركان قائدها المساعد اللواء محمد ولد محمد أزناكى للإشراف على الحفل صحبة الضابط العقيد عبد الله ولد الطالب ، وسط أجواء من الفرح داخل الولاية، باعتبارها أول دفعة يتم الإعلان عن تخرجها من المركز الذى أسس 1985 ، وظل أحد أركان التكوين والتدريب داخل المؤسسة العسكرية طيلة العقود الثلاثة الماضية.
كانت الفرحة كبيرة بين الضباط والجنود بعد أربعة أشهر ونصف من التكوين والمثابرة، وكانت أحلام التخرج والعودة لحياة العمل تراود جل أفراد الدفعة ، وهو فرح لم تخفيه ملامح وجه الضابط الجديد الذى كلف بإدارة المركز فى نفس اليوم العقيد الداه ولد سيدي محمد وأشرف قائد الأركان المساعد على تبادل المهام بينه وبينه سلفه الذى غادر المركز بعد إنهاء المهة الموكلة إليه.
موكب الرئيس ومشاغله ...
كان موكب الرئيس يتكون من ثلاث سيارات متفاوتة القوة والجاهزية وبضع حراس من قوات النخبة (بازب) ولم تغادر زوجة الرئيس العاصمة نواكشوط ، فقد واصلت عزوفها عن بوادى "إينشيرى" عكس الزوج المولع – كما يقول- بالنوم فيها والركض صباحا نحو الشمال (*) .
وكان نجله " حمزة ولد عبد العزيز " آخر المنضمين للقافلة التى عبرت المنطقة باتجاه المنتجع الخاضع لحراسة الأمن الرئاسى من أكثر من جهة، وفيه يعمل بعض الموظفين لدى الرئيس من حاشيته وبعض المقربين منه من أبناء الولاية، ضمن ثقافة كرسها التنافس المحموم بين كبار الضباط خلال العشرية الأخيرة.
كانت الأمور فى العاصمة تسير بشكل هادئ، وكانت الشؤون الإسلامية منشغلة بتفويج الحجاج إلى السعودية بعد أن أستعرض وزيرها المثير للجدل لوائح الحجيج وآخر الترتيبات، والمشكل الذى أعترضهم فى آخر لحظة مع شركة "ناس" السعودية، والضجر الذى عبر عنه الفوج الأول من الحجاج لدى وصول أفراده إلى مقام الحجيج بالمدينة المنورة، ضمن عادة دأب عليها الحجاج خلال السنوات الأولى من حكم الرئيس.
بينما كان وزير الصحة أحمد ولد جلفون يقلب أوراقه وقد تمكن من تمرير أربعة مشاريع نوعية داخل المجلس الوزارى تم بموجبها تحويل مراكز " أطار" و"ألاك" و"تجكجه" و"سيلبابى" إلى مؤسسة عمومية ذات طابع إداري، وقد أذن الرئيس بتجهيز المراكز المذكورة والتحضير لزيارات يمكن أن يقام بها مطلع العام المقبل 2013 ضمن حملة دعائية لصالح القطاع الصحى بموريتانيا.
قبل الكارثة بقليل ...
فى حدود العاشرة صباحا يوم السبت الثالث عشر من أكتوبر 2012 أنهى الرئيس جلسة الإفطار الجماعية بحضور اثنين من أعز رفاقه ونجله المستعجل فى قطع الرحلة والالتحاق بالعاصمة نواكشوط.
تناول ولد عبد العزيز أطراف الحديث مع صديقه وابن عمه " أحمد ولد عبد العزيز" وزميله الآخر " أحميده ولد بشراي" الذى أنضم للقافلة بعد مغادرتها للعاصمة نواكشوط، وقبل طلوع النهار ( 10:30 تقريبا) أذن لنجله "حمزة ولد عبد العزيز " بمغادرة المنتجع مع سائقه العسكرى فى سيارة رباعية الدفع، يقال بعض سكان العاصمة نواكشوط إنها من سرب تم اقتنائه أيام زيارة العقيد القذافى – عليه رحمة الله- لموريتانيا 2009.
وفى حدود الثانية زوالا أنهى طباخ الرئيس وجبة شهية للثلاثى الذى قرر إنهاء الراحة والعودة إلى نواكشوط برا، كما وصلوا المنتجع برا قبل يومين.
صلى الجميع الظهر فى المنتجع، وقرروا مغادرته فوجين بفعل اختلاف السيارات المستخدمة من طرف الرئيس وبعض رفاقه المشاركين فى الرحلة :
فوج ضم كلا من : رجل الأعمال أحميده ولد البشراي، وطباخ الرئيس / وقد سلك الطريق الشمالى المعروف بأنه الأسهل والأقرب لمدينة أكجوجت ، ومعهم غادر اثنان من حرس الرئيس.
فوج ضم الرئيس وزميله أحمد ولد عبد العزيز وحراسه الخمسة / وقد سلك الطريق الأصعب، ضمن مغامرة أعتاد الرئيس القيام بها فى كل جولة تأخذه إلى منتجعه بضواحى "إينشيرى".
كان الرئيس يقود السيارة الأمامية وهو ملثم وقد لبس جلبابه المغاربى، بينما كان فى جانبه ابن عمه أحمد ولد عبد العزيز وعليه فضفاضة تقليدية، وهما يتبادلان أطراف الحديث.
فى السيارة الأخرى كان يوجد خمسة من حراس الرئيس بينهم حارسه الخاص "حم" وسائقه "محمد" والعسكرى الصاعد "إسماعيل" ، وكانت سرعة السيارات متفاوتة، حيث حافظت سيارة الرئيس على مسافة 500 متر فى الغالب من سيارة الحراس طيلة الرحلة ، رغم صعوبة الطريق والكثبان الرملية غير المعبدة، والتى يحاولون اجتيازها قبل الغروب.
ووقع المحظور
لم يأخذ الرئيس علما بتحرك القوة العسكرية التى كانت تتمركز فى أكجوجت بعد انتهاء التدريب والحفل الذى أقيم يوم الخميس، وكانت هواجس القاعدة وعملياتها حاضرة لديه بقوة بفعل التقارير التى أستقبلها يوم الأربعاء عن العمليات الجديدة للقاعدة وأخواتها على الحدود الموريتانية المالية بعد فصل "مختار بلمختار" (بلعور) من القاعدة وقيامها بعمليات نوعية من أجل إثبات الذات داخليا وخارجيا، وإظهار قوة تنظيمه الجديد (الملثمين).
مع حلول الظلام كان الرئيس محمد ولد عبد العزيز يقترب من طريق "نواكشوط – أطار" وقرب المنعرج الشهير كانت سيارة صغيرة تقف على الشارع وكأنها فى انتظار الوفد الرئاسى بالضبط، كانت السيارة مركونة دون الطريق المعبد ورأسها إلى الجنوب وخلفها يقف شخص بملامح مدنية وبيده سلاح "أكلاشينكوف".
كان الرئيس أقترب بشكل كبير من السيارة دون الانتباه إليها، وحينما ميز الشخص وسلاحه ، أيقن أنه سقط فى كمين للقاعدة وأن لحظة اغتياله أزفت، ولم يكن المسدس الذى بحوزته قادرا على إنقاذه، كما لم تعد العودة إلى الخلف ممكنة بفعل اقتراب الخصم المفترض، فكان الحيلة الوحيدة أمامه – كما يقول لمعاونيه- بعد العملية هي محاولة الإفلات من قبضة مستهدفيه من خلال السرعة الزائدة للسيارة التى كان يستغلها ، بيد أن القدر كان أسرع مما خطط له الرئيس.
كيف أخترق الرصاص بطن الرئيس؟
صعدت السيارة بسرعة فائقة من المنعرج الخطير قبالة المسلح المتمركز خلف سيارته المدنية، وصوب العسكرى سلاحه تحت إلحاح الرغبة فى الحصول على منجز عسكرى، وهو الخارج للتو من حماس التدريب داخل مركز أكجوجت مع عدد من رفاقه المكتتبين حديثا، مع قلق ساوره بفعل السرعة الفائقة للسيارة والتى كان بداخلها ملثمان ( أجبرهم الحر على اللثام على الإقتداء بالسلفيين).
دخلت رصاصة طائسة من نافذة السيارة الخلفية اليمنى، وأخترقت بطن الرئيس حيث أستقرت قرب قدميه، بينما كان ابن عمه"أحمد ولد عبد العزيز " يصرخ ويحاول جاهدا تأمين الاتصال بقائد الحرس الخاص للرئيس "عالى ولد علوات" فى نواكشوط من أجل تنبيه الحراس فى السيارة على الكمين الذى سقطوا فيه، وتأمين حماية عسكرية مستعجلة، وسط مخاوف من ملاحقة المسلحين الإسلاميين المفترضين للرئيس.
نجا الحراس من رصاص العسكرى الطائش، لكنهم لم يتمكنوا من تحديد ماوقع، وبعد 5 دقائق توقفت سيارة الرئيس بعد أن حس بالإجهاد بفعل الرصاصة التى أخترقت جسده، وطلب من ابن عمه قيادة السيارة باتجاه العاصمة نواكشوط.
توقفت سيارة الحراس غير بعيد، وحاول "حم" النزول من أجل فتح سيارة الرئيس أو معرفة أسباب التوقف، لكن "أحمد ولد عبد العزيز" كان أسرع منه، حيث نزل من مقعده وتوجه إلى مكان السائق دون أن ينزل الرئيس من السيارة ، وإنما تحرك باتجاه المقعد الآخر ويده على الجرح النازف بفعل الرصاصة التى أخترقت جسده بشكل مفاجئ من سلاح "أكلاشينكوف".
تحرك "أحمد ولد عبد العزيز" بسرعة نحو العاصمة نواكشوط، وأخذ الرئيس هاتفه النقال متصلا على حراسه، طالبا منهم العودة إلى مكان الحادث ( أكصر أعماركم أرجع جيب الناس، أنتوم أشواعدين؟) .
أبلغ الرئيس صديقه قائد الجيوش العامة اللواء الركن محمد ولد الغزوانى بالحادث على الفور، وتحرك الأخير باتجاه قيادة الأركان من أجل إدارة العملية التى بدت صادمة للجميع.
أتصل ولد الغزوانى على قائد المستشفى العسكرى اللواء غلام، طالبا منه تجهيز المستشفى وإغلاقه فورا أمام حركة الزوار، واستدعاء كل الأطباء المتخصصيين فى العمليات الجراحية والإسعاف السريع.
كما أتصل بقائد أركان الدرك اللواء جاكا جينك وطلب منه إغلاق العاصمة بشكل كامل، وتحريك قوات الدرك فى النسق الشمالى باتجاه منطقة الحادث من أجل تطويقها واتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة المخاطر.
وتم إبلاغ المنطقة العسكرية السادسة بالحادث دون تفاصيل، وطلب منها إغلاق المجال الخاضع لها ( أكجوجت – واد الناقة) والتعامل مع أي غريب يعبر المنطقة وفق قواعد الاشتباك.
عبر الرئيس الطريق بشكل سريع، وكان فى انتظاره قائد الأركان العامة للجيوش محمد ولد الغزوانى، وقائد الحرس الرئاسى وبعض قوات النخبة التابعة له، بينما أبلغت الحكومة بوقوع الحادث، وطلب من وزير الإعلام حمدى ولد المحجوب الإدلاء بتصريح مقتضب لطمأنة الرأي العام، فى انتظار تدبير أمر الرئيس.
وبلغت القلوب الحناجر
قرر أفراد حرس الرئيس تنفيذ الأوامر الصادرة منه والعودة إلى مكان الحادث دون معرفة حجم الضرر الذى تعرض له الرئيس، وكانت اصعب لحظة عاشها الطاقم المكلفة بالحراسة، بعد أن كانت أبرز تحدياته حجب مستقبلى الرئيس عن السلام عليه أو استعراض العضلات والنظارات الشمسية فى الزيارات المفاجئة للرئيس داخل العاصمة نواكشوط وخارجها.
مع الاقتراب من المنطقة قرر قائد السرية أن ينزل جميع أفرادها ( أربعة أفراد) بسلاحهم وأن تتحرك السيارة بشكل بطيء من أجل تأمين التغطية اللازمة لها والتعامل مع الخطر فى حالة وقع الجميع فى كمين.
كانت الأمور صعبة للغاية على نفس السائق الذى ترك لحاله، وكانت صعبة أيضا فى نفوس القوم الذين كلفوا بمواجهة خطر مجهول العدة والعتاد وعدد المقاتلين.
مرت صلاة المغرب دون أن يجنح أفراد السرية لأداء الصلاة، إنهم فى سفر وفى السفر يكون تأخير الصلاة مقبول .. لقد كانت الظروف قاسية، فقد تحولت "إينشيرى" الوادعة إلى خطر، واستهداف رأس السلطة يعطى إشارة واضحة للحراس عن حجم المخاطر التى تنتظرهم قرب "أطويله" بعد أن كانت النفوس قد تاقت لراحة يومين بعد العودة من السفر مع الرئيس.
فجأة تحول الميدان إلى أضواء كاشفة بفعل السيارات التى حاصرت مرافقى الرئيس، وتعالى صراخ المتدربين فى المكان، ووجد الجميع نفسه أمام الموت عيانا، السلاح بيد تلاميذ الجيش، والآمر من حجم الضابط المجنون!.
أجتهد "حم" فى التعريف بنفسه على الطريقة العسكرية، وحاول "إسماعيل" التفاوض مع محاصريه بعد أن أكتشف أنهم جنود، وخيم صمت رهيب على سائق السيارة محمد رغم امتلاكه لسلاح "أكلاشينكوف" ومسدس" ، لكن الجو الضاغط لم يترك لهم من خيار.
بعد دقائق تقدم ضابط آخر إلى السرية، مستفسرا عن السيارة وركابها، وطلب من الجنود رفع الأيدي، وهو ماتم. وبعد التعارف تم إبلاغ قائد حراس الرئيس "عالى ولد علوات" بأن مطلق النار ينتمى لكتيبة مشاة تابعة لسلاح الجو، تمركزت حديثا فى المنطقة، وأن شبح القاعدة الذى كانوا يخشونه قد زال.
بعد أقل من 25 دقيقة وصل قائد الجيوش العامة اللواء الركن محمد ولد الغزوانى للمكان ومعه قائد أركان الدرك، واصطحبوا مطلق النار على الرئيس، وكان فى حالة انهيار عصبى غير مسبوق، وطلب من القوة العسكرية التمركز فى المنطقة المذكورة وعدم التحرك باتجاه أي نقطة فى انتظار وصول قائد القوات الجوية والبرية والقائد المساعد للجيوش لمعالجة الأمور.
كانت العاصمة نواكشوط فى تلك الليلة على موعد مع ليلة ساهرة بفعل الهزة القوية التى أصابت الحكومة والشارع، وأربكت الجوار الإقليمى، ووضعت البلد على حافة تجاذبات بالغة الخطورة والتعقيد.
سيد أحمد ولد باب