أطفال فرحون يتسابقون نحو قاعة التدريس في مبنى ضخم مكون من ثلاثة طوابق؛ شبّان يافعون احتلوا أماكنهم في قاعة مخصصة للمطالعة وقراءة الكتب، مدرسون ومدرسات يحملون حقائبهم ويتجه كل منهم إلى قاعة التدريس الخاصّة به ليلتقي طلابه ويبدأ معهم يومهم الأسبوعي الخاص بتعليمهم لغتهم الأم "اللغة العربية".
تواصل مع الوطن الأم
يعاني كثير من أبناء المهاجرين هموم الحنين إلى الوطن والذكريات الجميلة، لكنّهم يعانون إلى جانب ذلك من هاجس الخوف من أن ينسى أطفالهم لغتهم الأم وبالتالي ينسون وطنهم ومسقط رأس آبائهم وأجدادهم. يقول د. حاتم البطش رئيس نادي دعم اللغة العربية في مدينة مونستر الألمانية لمهاجر نيوز: "إنّ اللغة العربية هي لغة القرآن، وهنا تعلم اللغة العربية يصب في ممارسة الشعائر الدينية”، فالبطش يرى أن هناك ترابطاً وثيقاً بين اللغة العربية والدين الإسلامي، الأمر الذي يجعل كثير من أبناء الجالية حريصين على تعليمها لأبنائهم بهدف تعليمهم شعائر دينهم وضمان ارتباطهم بمعتقدهم الديني في المستقبل. لكنه يرى أيضاًَ أنها صلة الوصل بين الفرد وبين الوطن الأم، فهي “لغة التواصل مع العائلة بمفهومها الكبير أي التواصل مع الجد والجدة والأقارب في الوطن الأم."
من جهة أخرى ترى السيدة (بيترا ماير غولدباخ) وهي معلمة لغة ألمانية وتعمل كمستشار في مدرسة الشعب الألمانية في مدينة هاغن غرب ألمانيا (VHS)، إنّ تعليم اللغة الأم لأبناء المهاجرين أيّاً كانت هذه اللغة يعدّ أمراً إيجابياً، ويؤثر بصورة جيدة على اندماج اللاجئ داخل ألمانيا، تقول: "إن تدريس اللغة الأم مهم بشكل خاص لأن اللغة الأم توفر الأساس لهوية الشخص. وقد أظهرت العديد من الدراسات أن الطلاقة في اللغة الأم تؤثر بشكل إيجابي على اكتساب وتعلم اللغة الثانية (الألمانية)." وهو ما أكّدته (بشران) لمهاجر نيوز وهي معلمة لغة عربية سورية تقيم في هاغن: "من الضروري جداً تعليم الأطفال لغتهم الأم إلى جانب تعليمهم اللغة الألمانية، لأن اللغة تمثّل الوعاء الذي يشمل ثقافة وهوية الإنسان وبدون اللغة يصبح الإنسان بلا هوية."
تحديات أمام التلاميذ
على الرغم من الصعوبات التي تواجه المهتمين بهذا الأمر، إلا أنّ هناك كثيرا من التجارب لاقت نجاحاً على مستوى ألمانيا، حيث يقول أحمد الحموي وهو أحد أعضاء نادي دعم اللغة العربية في مونستر: "نقوم بتعليم اللغة العربية للعرب ولغير الناطقين بالعربية، وهناك أناس يتعلمونها رغبة في إيجاد فرص عمل قد يكون شرط إتقان اللغة العربية أحد الشروط للتقدم إلى هذا العمل". وفي معرض حديثه عن الدوافع الاقتصادية لتعلّم اللغة العربية، يتابع: "هناك أشخاص حصلوا على وظائف في دول خليجية كانت تشترط إتقانهم العربية، وبعضهم حصل على وظائف في بعض الشركات الألمانية التي تضع شرط معرفة جيدة باللغة العربية".
يذهب التلاميذ إلى المدارس في ألمانيا خمسة أيام في الأسبوع، وغالباً ما يرافق هذه الأيام دروساً إضافية لتمكين اللغة الألمانية أو ساعات إضافية في مواد أخرى كالرياضيات والعلوم، وقد يذهب التلميذ إلى دروس في الرسم أو الموسيقى أو الرياضة، وبالتالي سيكون يومه مليئاً بالنشاطات؛ وهنا تكمن أولى التحدّيات التي تواجه التلاميذ وذويهم فيما يخصّ تعليم اللغة العربية، لذا يلجأ كثير من المهتمين بتعليم اللغة العربية إلى خلق ساعات فراغ أيام العطل الرسمية، وبأساليب تجعل التلميذ يرغب بتخصيص وقت من عطلته الأسبوعية لتعلّم لغة أخرى، يقول الحموي: "تعليم اللغة العربية يحتاج وقتاً وجهداً مما يعني أوقات فراغ أقل للتلاميذ، ولذلك يجب تعليم اللغة العربية بالوسائل الحديثة التي تشعر الطفل بالمتعة والرغبة بالمجيء إلى المدرسة في يوم العطلة أيضاً".
تقنين تدريس اللغة العربية؟
وبسبب عدم وجود قانون رسمي يسمح بتعليم اللغة العربية داخل المدارس الألمانية، تعالت الأصوات بين المهاجرين مطالبةً بتخصيص حصة أسبوعية داخل المدارس الألمانية لتعليم أبناء المهاجرين اللغة العربية أسوةً بغيرهم من أبناء المهاجرين الذين يتلقون دروساً في اللغة التركية أو الروسية. يتابع الحموي قائلاً: "أعتقد أن الوقت مناسب لطرح هذا الموضوع بشكل رسمي، فاللغة العربية لغة عالمية ولها أهمية بين لغات العالم، ومن حق المهاجرين تعليم أطفالهم لغتهم الأم". وكان وزير التربية والتعليم في ولاية شمال الراين ويستفاليا قد أدلى بتصريح في حديث مع قناة WDR حول هذا الأمر منوّهاً إلى إمكانية طرح هذا الموضوع مستقبلاً كي يتم تنفيذه بشكل رسمي، علماً إنّ بعض المدن بدأت بالاستعانة بمدرسين مختصين لتدريس مادة اللغة العربية داخل المدارس الألمانية، حيث يقول الحموي: "لقد تمكّن ثلاثة مدرسين من كادرنا من الحصول على وظيفة داخل المدارس الألمانية لتدريس اللغة العربية في مدينة مونستر حيث يتم تجميع الطلاب في مدارس معينة خلال الأسبوع ويتلقون حصة في اللغة العربية، إلا أنّ هذا الأمر لا يزال في أطواره الأولى وبحاجة إلى تنظيم أكثر". فمن وجهة نظره تبقى خطوة جيدة إلا أنها بحاجة إلى تنظيم أكثر من حيث النظر في مستويات الطلاب إذ يجب فرزهم تبعاً لأعمارهم ومستوى إتقانهم للغة العربية.
إشكالية تولي المساجد هذا الدور
تقوم المساجد داخل ألمانيا بتخصيص أوقات معينة لتعليم القرآن ودورس العقيدة وإلى جانبها تعليم اللغة العربية، وكثير من الأهالي يجدون أنّ هذا الأمر يؤثر بشكل إيجابي على أطفالهم من حيث ارتباطهم بدينهم وثقافتهم، حيث يقول الحموي: "الحقيقة إن تعليم اللغة العربية في المساجد أمر إيجابي في حال توفرت التجهيزات المناسبة من قاعات ووسائل تعليمية حديثة وقاعات للترفيه ومكتبة كما هو الحال في المدارس الألمانية". فارتباط الطلاب بالمساجد أمر جيد من حيث ارتباطهم بدينهم وثقافتهم وتاريخهم وكل هذا يسهم في تكوين شخصية الطفل، بحسب ما ذكرته لنا (دنيا).
إلا أنّ هذا الأمر، بحسب البعض، يحمل جوانب أخرى سلبية، لأنه يستثني غير المسلمين من العرب الموجودين بألمانيا، كما أن المسجد يجب أن يركز على تعليم الدين كما ترى دنيا، وهي لاجئة سورية تقيم في مدينة هاغن وتقول: "ليس من الخطأ ذهاب الطلاب إلى المساجد لتلقي علوم الدين، فهذا أمرٌ جيد وأنا أرسل أطفالي كل أسبوع إلى هناك، ولكن لا يوجد مدرسين مختصين في تعليم اللغة العربية وهذا ما نعاني منه”.
نقص المدرسين المتخصصين
التخصص أمرٌ مهمٌ جداً في ألمانيا، كما أن تدريس اللغة العربية ليس بالأمر اليسير ما لم يكن المدرس مختصّا ومتمرساً في هذا المجال، وهو ما أكدته بشران: "أقوم بتدريس الأطفال تبعاً لمناهج مخصصة للحياة في أوروبا، وأقضي وقتي خلال الأسبوع بالتحضير للدرس، فالطالب بحاجة لطرق تدريس معينة ووسائل تسهّل عليه تلقي لغة إضافية إلى جانب تلقيه اللغة الألمانية التي يتحدث بها في المدرسة خلال الأسبوع كله".
وبالطبع فإن إسناد الأمر إلى غير أهله يفسده، بحسب بشران، إذ لا يكفي أن تتطوع لتعليم اللغة العربية وأن تكون ناطقاً بالعربية لتصبح مؤهلاً لتعليم العربية، تتابع: "نتعلّم الألمانية هنا من مدرسين مختصين، والحكومة لا ترسل لنا أي شخص ألماني كي يعلّمنا مالم يكن تخصصه هو تعليم اللغة، فتعليم اللغة أمرٌ يتطلب جهداً ومعرفة كافية بطرائق التدريس وهي كغيرها من المهن تحتاج إلى الدربة والمران". كما أكّدت السيدة غولدباخ في حديثها لمهاجر نيوز على أهمية التخصص ودوره في نجاح هذه الفكرة، حيث تقول: "ليس من السهل أن تصبح مدرساً في المدارس الألمانية، ولا يمكن لأي شخص فقط لكونه ألمانياً ويتحدث الألمانية أن يدرّس الألمانية، فاللغة علم معقد ويحتاج إلى دراسة وتدريب كي يتمكن المرء من تعليمها للآخرين، وكذلك هي الحال مع باقي اللغات ومنها العربية".
آفاق مفتوحة
على الرغم من الصعوبات، ازداد عدد المدارس التي تدرس اللغة العربية داخل ألمانيا بشكل كبير في مختلف الولايات، وذلك تبعاً لازدياد حاجة الأهالي لذلك، تقول السيدة غولدباخ: "هناك مشاريع ناجحة على مستوى ألمانيا في هذا المجال، وأعتقد أن الأمر سيأخذ طابعاً رسمياً داخل المدارس الألمانية مع المستقبل" حيث تدرس الحكومة إمكانية تعميم التجربة على كافة أنحاء ألمانيا وعدم الاكتفاء ببعض المدن. تقول بشران: "أعمل مع مجموعة من الزملاء المختصين منذ ما يقارب السنة على تأسيس مدرسة لتعليم اللغة العربية في هاغن، ونسعى أن نقدّم أفضل ما عندنا لخدمة هذا المشروع، فنحن مختصون بهذا المجال ولدينا الخبرة الكافية لتقديم الأفضل". وعن تعميم التجربة على مستوى ألمانيا يقول الحموي: "هناك كثير من المدرسين المختصين بتدريس اللغة العربية في ألمانيا، وغالبيتهم يبحثون عن فرصة عمل، وستكون مثل هذه المشاريع فرصتهم لإثبات وجودهم والتحاقهم بسوق العمل ما يعزز اندماجهم داخل المجتمع الألماني".
لمغرب العربي: