الطريق إلى روصو حفت بالمكاره والمطبات، كأنها تقود إلى جنة الوطن المفقودة. السيارة تتحرك فوقها بشكل متموج مثل الأفعى. الطريق رثة وأحيانا تختفي لتتحول إلى رماد داكن تتوسطه حفر عميقة كأحواض الاستحمام الفارغة. عند عبورها؛ يمكنك أن ترى أشجار الصبر وقد نبتت بكثافة فوق التلال ونظرات المسافرين، عدة أعوام مرت على أقدم طريق وهي بلا طريق!
رغم تجانس الأرض؛ ورتابة مناظرها على طول الطريق إلا أن معظم مواضعها مغلفة بالأشعار والقصص، فكلما لمحت كثيبا أو أطلال شجرة؛ تخيلت شاعرا يهش بعصاه على القوافي، أو سمعت ضبح خيول تغوص بحوافرها في الرمال اللينة، على طول تلك الطريق؛ بدت السماء فوقنا كأنها ستمطر شعرا وأدبا. أعتقد أنني فهمت بجلاء السر الكامن وراء اتساع صدور سكان الولاية السادسة وبرودة أعصابهم وغزارة علمهم وفصاحتهم، فذلك النسيم البارد واللطيف الذي يبثه البحر في المنطقة كل مساء؛ هو السر، فهو مرطب للأعصاب ومنعش للقلب، وليس السر في العيش واللبن كما هو شائع، فنحن في المناطق الشرقية نأكل العيش ونسكب اللبن عليه، ومع ذلك أعصابنا متوترة دائما والسبب عائد لكون نسيم البحر( الساحلية ) لا يصلنا، لذلك فإننا نطلب من الدولة أن توفر النسيم ( الساحلية ) في كل مناطق الوطن، وذلك بشق نهر اصطناعي يحمل مياه البحر إلى دواخل الوطن حتى يشعر سكانها بنعمة نسائم المساء.
ربما اختلاط الثقافات، واحتكاك كل من التيارات البحرية الباردة والصحراوية الجافة وغزارة الصراع قديما بداخل المنطقة، عوامل أورثت في عقول السكان رزانة وعمقا وحصافة، فكلمات الناس هنا تبدو كثيفة المعنى وبعيدة الوجهة، وهو ما يعرف محليا بالديمين، لاحظت ذلك؛ من كلمات الرفاق في الرحلة، أحدهم استفسرنا متهكما عن لافتات منصوبة بجوار الأشغال على الطريق؛ هل هي شواهد قبور؛ وهو ما يعرف ( بالصالحين )، أجابه أحد الرفاق قائلا: ربما هي لبعض (الصالحين الجدد)، عندما مررنا بنقطة تفتيش قال لهم السائق: بأن وجهتنا مكاتب الانتساب فأفسحوا له الطريق بكل أريحية، وهو تصرف يشي بأن جل طحين الحزب الحاكم؛ مستمد من جعجعة السلطة وهيبتها في نفوس الموظفين.
بعد مسافة طويلة من مراوغة الحفر العميقة، تجلى لنا طريق صقيل وأملس ومكتمل الإشارات، كأننا دخلنا في حلم جميل. كانت بقية الطريق المقدرة بحوالي 45 كلم تقريبا؛ والمتبقية من أطلال طريق نواكشوط-روصو؛ من أكثر الطرق التي سلكتها روعة وأناقة، وقد قال أحدهم بأن شركة برتغالية أنجزتها، ما أجمل العمل عندما يكون متقونا، فاللهم " برتغل " شركاتنا المحلية، كم تمنيت لو أن الحكومة تعاقدت مع هذه الشركة البرتغالية في كل الطرق المعبدة في الوطن. والتي شاخ معظمها بسرعة رغم أنه بعضها لم يحتفل بعد بعيد ميلاده الرابع، فاللهم أحسن خاتمتنا مثلما حسنت خاتمة الطريق بين نواكشوط ومدينة روصو، فأولها عسر وآخرها يسر...
عندما بدأ الماء يلمع مثل شظايا المرايا بين حقول الأرز الخضراء، تجلت لنا معالم المدينة، وقد امتجزت فيها كل أصناف الثقافات، والمباني الجديدة والقديمة. إنها المرة الأولى التي أزور فيها مدينة روصو واعتلي فيها صهوة عربة " الوتير " التي يجرها الحصان، وأشم فيها رائحة النهر وأركب العبارة نحو الضفة الأخرى. لقد دنوت جدا من السنغال حتى مسافة المتر، فإذا التفت عن يساري رأيت روصو موريتانيا وإذا التفت عن يميني رأيت روصو السنغال. الضفتان بنفس الملامح كأن تضاريسها محايدة ولا تبوح بانتماء مغاير للضفة الأخرى؛ تماما كمياه النهر القادمة من أعالي النيجر البعيدة. عندما ارتشفت جرعة من مياه النهر وجدت فيها طعم حكايات قديمة؛ حكايات مضمخة بأصناف المشاعر؛ البهجة والأسى. إن العبارة وطن صغير، يعبر النهر جيئة وذهابا بين الضفتين، امرأة سنغالية بجانبي؛ كانت تحمل زادها من المؤن المتنوعة عائدة لوطنها بعد تسوق آمن بداخل روصو موريتانيا مع رفيقاتها، وهناك مرضى وتجار موريتانيون كانوا يعبرون ناحية روصو السنغال بسلام. قمت بتدوير عجلات الزمن ناحية الماضي ثم تخيلت النهر في أحداث 1989، طيور الخوف تحوم حول العبارة، والزوارق الصغيرة ملتصقة باليابسة بأسى، الحقول مذعورة، وكلتا الضفتان تقذف الأخرى بنظرات غاضبة، مع أن المسافة بينهما لم ولن تتغير أبدا، وستظل عدة دقائق فقط. لا شيء حقا يجعل الأرض حزينة سوى حروب الجيران. ولا شيء في هذه الدنيا أكثر جمالا ودفئا من السلام...
ينطبق المثل جاور الماء تعطش على روصو، بالرغم من أنها مستلقية على ضفاف النهر؛ إلا أن الحنفيات تقطع فيها غالبا. عندما رأيت حقول الأرز استغربت من كوننا نستورد الأرز من قارة آسيا، واستغربت أكثر من كوننا شعب فقير وبائس، ولدينا البحر بأسماكه، والنهر بمائه وخصوبته، والحديد بخاماته، والذهب ببريقه، والنحاس بجاذبيته، والمواشي بلحومها وجلودها، وربما تناسيت آبار النفط وحقول الغاز المكتشفة عمدا، فعددنا لا يكاد يتجاوز الأربعة ملايين، ومع ذلك؛ لم نسلك الطريق جهة جنة الوطن بعد.
هنا روصو، إنها مدينة غزيرة الثروات، ومع ذلك؛ تبدو بناها التحتية منسية، كان يمكن أن تكون أجمل من هذا بكثير. إنها ابتسامة الوطن الجنوبية. على شبكة الFM يبدو تردد الإذاعات السنغالية أكثر قوة...
إنها المرة الثانية على التوالي في 2018 التي ألعب فيها دور صاحب العريس، هذه المرة لعبته بصمت، ربما لأنني كبرت على لعب هذا الدور، إلا إن ناموس روصو مافتئ يزغرد في أذني بكل صخب؛ كأنه يذكرني بأنني شخت على الوحدة، وقد حان الوقت للظفر بمتشردة ما تتقاسم معي ذنوب الوطن وحسناته..
مسافر إلى مدينة دكار... الساعة 07:50 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
من صفحة المدون خالد الفاظل