شعر المتواجدون القليلون على الطوف بدنو نهايتهم، فتجمع من تبقى له النزر اليسير من نشاط وسط الطوف المتهالك، علهم يبقون على قيد الحياة دقائق أخرى، فأطراف الطوف أخذت تتهاوى، الجثث مترامية على جوانبه منذرة الأحياء بنهايتهم المحتومة، في خضم عاصفة بحرية عنيفة قد تكون آخر ما يرونه في حياتهم، كان أحدهم يحتضن جثة ابنه الميت على حافة الطوف حاقدا على الحياة التي أوصلته إلى هذا الحال، لكن أحدهم لمح سفينة تلوح في الأفق، أبلغ الآخرين ببصيص أمل قد يضع حدا لكارثتهم، فاندفع من استطاع للتأكد مما سمعوه غير مصدقين، خاصة الإفريقي الذي أخذ يلوح للسفينة لإنقاذهم. لم يكن هذا مقطع من قصة بائسة، بل وصف للوحة «طوف المدوسا» إحدى أشهر اللوحات في تاريخ الرسم الفرنسي، وأكبرها حجما، حيث بلغ طولها أكثر من سبعة أمتار وعرضها حوالي خمسة أمتار. والتي تعتبر أبرز علامات بداية المدرسة الرومانسية الفرنسية، حيث رسمت عام 1818 من قبل رسام فرنسي شاب رفعته هذه اللوحة إلى مصاف كبار الرسامين يدعى تيوديور جريكو (1791 ـ 1824) واعتبر من رواد تلك المدرسة، فما عرض في اللوحة من أحداث لم يكن خياليا، بل تعبيرا فنيا عن إحدى أشهر المآسي في التاريخ الفرنسي الحديث.
«طوف المدوسا» إحدى أشهر اللوحات في تاريخ الرسم الفرنسي، وأكبرها حجما، حيث بلغ طولها أكثر من سبعة أمتار وعرضها حوالي خمسة أمتار. وتعتبر أبرز علامات بداية المدرسة الرومانسية الفرنسية.
حكاية السفينة
كان مؤتمر فيينا عام 1815 نقطة تحول في تاريخ أوروبا، حيث اجتمعت القوى الأوروبية، واقتسمت القارة الأوروبية، وبعض المستعمرات خارجها، بذلك انتهت فترة امبراطورية بونابرت، فأعيد لويس الثامن عشر ملكا على فرنسا، الذي قام بتعيين الكثيرين من كبار الأرستقراطيين في مراكز قيادية بالحكومة. وكنتيجة أخرى لمؤتمر فيينا قامت بريطانيا بالتنازل عن مستعمرتها في السنغال لفرنسا، فأرسلت الحكومة الفرنسية طاقم إداري لإدارة مستعمرتها الجديدة على متن سفينة «المدوسا» الحربية في السابع عشر من يونيو/حزيران عام 1816 لاستلام السنغال. تكونت الإدارة الفرنسية هذه من أربعمئة شخص، منهم الحاكم الفرنسي وزوجته، كتيبة من الجنود والضباط مع عدد من المدنيين، طاقم السفينة الذي تكون من مئة وستين شخصا. حملت السفينة كذلك كمية من الذهب، كان القبطان قد عين فقط لكونه أحد الأرستقراطيين المؤيدين للملك، بغض النظر عن كفاءته، حيث أنه لم يقد أي سفينة منذ عشرين عاما، أراد هذا القبطان الوصول إلى السنغال بأسرع وقت ممكن، ولذلك اقترب من الساحل الإفريقي متجاهلا خطورته، حيث عرّض هذا السفينة لخطر الاصطدام بصخور قاع البحر، وهو ما حدث فعلا حيث جنحت السفينة على الصخور، وهي على بعد حوالي ثلاثين كيلومترا من ساحل موريتانيا، رفض القبطان أي محاولة لإنقاذ السفينة مفضلا إجلاء الجميع إلى الساحل الموريتاني عن طريق القيام بعدة رحلات بقوارب النجاة، التي لم يكن عددها بكافٍ للجميع، لكن سرعان ما اقتنع القبطان بقرب تفكك السفينة، لذا توجب إجلاء الجميع دفعة واحدة، ففكر بحل غريب، هو بناء طوف لاستيعاب من لن يكون له مكان في قوارب النجاة على أن يجره القارب الذي يقوده القبطان إلى الساحل الموريتاني.
توفي خمسة من الناجين بعد أيام قليلة، كان منهم الإفريقي الذي يظهر في اللوحة ملوحا للسفينة، أما من كان على قوارب الإنقاذ، فقد وصلوا بر الأمان، وواصلوا رحلتهم برا نحو السنغال.
المأساة
تم بناء طوف على وجه السرعة على سطح السفينة، كان طوله عشرين مترا وعرضه سبعة أمتار، وركب على متنه مئة وستة وأربعون رجلا وامرأة واحدة مع بعض النبيذ والكعك بعد أن بقي سبعة عشر بحارا من الطاقم على متن السفينة، امتلأت قوارب النجاة بعلية القوم، منهم حاكم السنغال المُعَيّن وزوجته، بعد سحب الطوف بقارب النجاة لعدة كيلومترات اقتنع القبطان أن سحب الطوف يهدد سلامة زورقه فقطع الحبل تاركا الطوف ومن عليه لمصير مجهول، فلم تكن هناك وسيلة للسيطرة على مسار الطوف أو طريقة لهم لمعرفة مكانهم، استهلك الركاب الكعك بسرعة، بدأ اليأس يتملك الجميع، وسرعان ما بدأت المشاكل بينهم، حيث توفي في الليلة الأولى عشرون شخصا قتلا أو انتحارا، في اليوم الثاني حصلت مواجهة بين الجنود من جهة والضباط والمدنيين من جهة أخرى، انتهت بإطلاق الضباط النار على الجنود، أخذ الجميع يأكل الأحزمة الجلدية والقبعات، لاحظوا أن أطراف الطوف بدأت بالتفكك، فأخذوا يتنافسون للبقاء وسط الطوف، ما أدى إلى حدوث قتال وحشي بينهم، رمت الأمواج البعض في البحر ليلقوا حتفهم. في اليوم الرابع بقي سبعة وستون من الركاب، الجوع يكاد يقتلهم، فلجأوا إلى أكل لحوم من مات منهم، في اليوم الثامن قرر الأقوياء منهم رمي الضعفاء، الجرحى في البحر حتى بقي من الركاب خمسة عشر شخصا فقط، استمرت المأساة حتى اليوم الثالث عشر عندما لمح أحد الركاب سفينة بعيدة في البحر، فأبلغ الآخرين ليلفتوا انتباه بحارة تلك السفينة، لكن بدون جدوى، حيث اختفت سريعا لعدم رؤية بحارتها للطوف. سيطر اليأس على ركاب الطوف مرة ثانية،، لكنهم دهشوا عندما عادت السفينة بعد ساعتين ليس بسببهم، بل لتغير اتجاه الريح، لاحظ بحارتها الطوف، فتم إنقاذ من كان على متنه. توفي خمسة من الناجين بعد أيام قليلة، كان منهم الإفريقي الذي يظهر في اللوحة ملوحا للسفينة، أما من كان على قوارب الإنقاذ، فقد وصلوا بر الأمان، وواصلوا رحلتهم برا نحو السنغال، توفي بعضهم في الطريق، أما مصير البحارة السبعة عشر الذين بقوا على متن السفينة، فلم يأبه القبطان بهم، لكنه أراد إنقاذ حمولة الذهب على متن السفينة، لذلك قرر إرسال بعثة إلى السفينة، التي وصلت بعد ثلاثة وأربعين يوما من جنوحها، وجدت ثلاثة بحارة فقط على قيد الحياة، لكن من أنقذ هؤلاء الثلاثة لم يكن الفرنسيين بل الأسطول البريطاني.
حكم على القبطان بالسجن ثلاثة سنوات، يعتبر هذا الحكم مخففا بشكل كبير، لكن الأخبار وصلت إلى الصحف المعارضة للملكية فنشرتها، وإذا بالأمر يتحول سريعا إلى أكبر فضيحة في فرنسا وأوروبا.
الفضيحة
ما أن وصل الناجون إلى فرنسا حتى بدأت السلطات الفرنسية تحقيقا رسميا حول المأساة، أدلى اثنان منهم بشهادات عنها، حاولت السلطات الفرنسية كل جهدها التكتم على التحقيق/المأساة لتجنب الفضيحة، حكم على القبطان بالسجن ثلاثة سنوات، يعتبر هذا الحكم مخففا بشكل كبير، لكن الأخبار وصلت إلى مسامع إحدى الصحف المعارضة للملكية فنشرتها، وإذا بالأمر يتحول سريعا إلى أكبر فضيحة في فرنسا وأوروبا، وقام طبيب ومهندس في الجيش من الناجين الاستفادة من المأساة عن طريق تأليف كتاب عنها سرعان ما أصبح من أكثر الكتب مبيعا، أعيد طبعه أربع مرات خلال أربع سنوات، ترجم إلى عدة لغات، وسمع رسام شاب يدعى تيودور جريكو بالمأساة فقرر رسم لوحة عنها كي يبرز نفسه كفنان كبير.
لوحة طوف المدوسا
كان جريكو مصابا بالكآبة، من عائلة عرف أفرادها بالاضطرابات النفسية. لكنه أخذ فكرة رسم لوحة عن مأساة الطوف مأخذ الجد، انكب على العمل فورا، فأجر مرسما أمام مستشفى في باريس، اتصل بمؤلفي الكتاب عن المأساة كما التقى بثالث، الذي كان نجارا، صنع بناء على طلبه طوفا مطابقا لطوف المأساة. أخذ الرسام يزور المرضى في المستشفى الواقع أمام مرسمه، يراقب وجوههم، كما أخذ يدرس الجثث في المشرحة، جلب إلى الاستوديو أعضاء بشرية لدراسة رسمها، كيفية تعفنها، في إحدى المرات جلب رأسا مقطوعة من مستشفى للأمراض العقلية لدراسته، قام بزيارة موانئ شهيرة لدراسة كيفية رسم البحر، اجتاز البحر بين فرنسا وإنكلترا لدراسة العواصف البحرية، بذلك قضى الرسام عشرة أشهر في الإعداد لرسم لوحته، عندما بدأ بالرسم استعان ببعض الأشخاص كي يكونوا نماذج للأشخاص الظاهرين في اللوحة، منهم مساعده ومؤلفي الكتاب، وصديقه الرسام الشهير ديلاكروا، دام رسم اللوحة ثمانية أشهر. وقد عرضت لأول مرة عام 1819 في معرض ضخم في صالون باريس ضم ألفا وثلاثمئة لوحة والكثير من التماثيل، لكن «طوف المدوسا» كانت الأهم في المعرض على الإطلاق. زار المعرض الملك الفرنسي لويس الثامن عشر قبل افتتاحه بثلاثة أيام وانبهر باللوحة وأثنى على صاحبها، لكن اللوحة واجهت بعض المشاكل حيث كانت قد علقت في أعلى الحائط مما أزعج الزوار، انتقد البعض رسائل سياسية قد تكون فيها، فقد اتهموها بكونها دعاية ضد الملكية، ضد كون فرنسا دولة استعمارية وتمارس العبودية، وانتقدها آخرون لتركيزها على الموت، العذاب، المعاناة، استهجنوا منظر الجثث على الطوف، في نهاية المعرض حصلت اللوحة على الميدالية الذهبية، لكن الرسام حُرِمَ من شرف اختيار لوحته لعرضها في متحف اللوفر الشهير مما خيب آماله، بعد ذلك قام جريكو بعرض اللوحة في لندن، كان استقبال الجمهور الإنكليزي لها أفضل من مثيله الفرنسي بكثير ربما نكاية بالفرنسيين، حيث أن اللوحة تظهر فشل فرنسا الذريع، كما وضعت في مكان أفضل على حائط المعرض، حصل الفنان على مبلغ عشرين ألف فرنك فرنسي مقابل عرضها في لندن لسنتين، حيث كان قد اتفق على الحصول على نسبة من مبيعات التذاكر.
حُرِمَ الرسام من شرف اختيار لوحته لعرضها في متحف اللوفر الشهير مما خيب آماله، بعد ذلك قام جريكو بعرض اللوحة في لندن.
جريكو
وعلى الرغم من الشهرة الواسعة التي نالها جريكو، إلا أنه لم ينعم بالمجد كثيرا، فعلاوة على حالته النفسية السيئة، تدهورت صحته بسبب إصابته بالسل، وتعرض لعدة إصابات أثناء ركوبه للخيل جعلت حياته عذابا، وانكب على رسم وجوه المضطربين نفسيا حتى توفي عام 1824، هو في سن الثالثة والثلاثين، ونقلت اللوحة إلى متحف اللوفر في باريس بعد وفاته، ولا تزال حتى الآن في الغرفة المجاورة للموناليزا. وعلى الرغم من أن اللوحة أول علامة فارقة للمدرسة الرومانسية، فإننا نجد فيها آثارا واضحة للمدرسة السابقة ــ الكلاسيكية ــ فمثلا نجد الأشخاص في الصورة من ذوي العضلات، في أتم صحة، عراة عموما، ما يناقض الحقيقة، حيث عانى الناجون من سوء تغذية حاد، ناقضت اللوحة الحقيقة كذلك في وجود الموتى والشراع ما ناقض ما ذكرته المصادر التاريخية، إضافة إلى ذلك تميزت اللوحة بعدم وجود شخص معين تركز عليه كبطل، الذي كان من ميزات المدرسة الكلاسيكية، بل ركزت على الحدث نفسه مع المبالغة الفنية لمعاناة ضحايا الكارثة. كذلك نجد تأثيرا لكبار الرسامين السابقين، خاصة مايكل أنجلو في مصلى مسكن البابا الخاص، أعمال أخرى لرافائيل، ولوي دافيد. كما تأثر العديد من الفنانين باللوحة بعد ذلك، ووصف المؤرخ الفرنسي جول ميشيلي اللوحة بأنها «مجتمع بأكمله كان على متن ذلك الطوف».
زيد خلدون جميل
٭ باحث ومؤرخ من العراق