إبراهيم ناجي الذي بكى على "الأطلال" وظل خالدًا

سبت, 25/06/2022 - 09:55

في الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر، جاء إلى الدنيا الشاعر إبراهيم ناجي، وتحديدًا عام 1898، فأطلَ على بدايات القرن العشرين، وعاش أحداثه الكبرى، وما حملته معها من حراك ثقافي كان أبطاله مبدعين كبارًا قدموا للثقافة إنجازات مرموقة ساهمت إلى حد كبير في بلورة وعي مختلف، وحتى ذائقة مختلفة.

إبراهيم ناجي عاش في عصر أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وطه حسين، ومن جايلهم، وشهد أحداث السياسة العاصفة، لكنه انفرد عنهم برؤيته المختلفة للشعر، هو الذي كتب القصة، ومارس الترجمة من الآداب العالمية بذائقة خاصة جعلته أحد قلائل اجترحوا الإبداع "الصافي"، وأعني به الرؤية الإبداعية الأقل تأثرًا بصخب الإعلام، وفوضاه، معًا، وذهابه نحو فكرة الالتصاق بذاته الفردية، إيمانًا بها إلى الدرجة التي جعلت شهرته الأكبر متأخرة عن غيره، بل لا نجازف إذ نقول إن الجمهور الأوسع من عشاق شعره جاء إليه بعد أن تغنى مطربون كبار ببعض قصائده العاطفية قبل أن تغني له أم كلثوم "الأطلال"، التي استحقت أن يراها النقاد ضمن مئة أغنية هي الأهم في القرن العشرين في العالم كله، ما جعل كثرًا من قراء ومحبي الشعر يعودون للبحث عن دواوينه.

هو الطبيب الذي تعرف على الحياة الاجتماعية من خلال مهنته في زمن كان فيه وجود الأطباء نادرًا، ويتمتعون بمكانة اجتماعية مرموقة جعلتهم يقفون في مكانة النخبة الرفيعة، فكان ناجي بهذا يعيش استقرارًا ماديًا وبحبوحة عيش جعلته في منأى عن عصف الزمن ومصاعبه، ومكنته من الإبداع بحرية أكبر. هو بهذه المكانة في قلب المشهد الاجتماعي ـ الإنساني، ويمتلك قدرة رؤية التنوع الحياتي، وما يحمله من أجواء ومناخات، وحتى أمزجة مختلفة ومتعددة.

روى بعض معاصريه أن رجلًا جاء إلى عيادته يتلوى من الألم، فقام ناجي بمعاينته، فلم يجد شيئًا، ولم يستطع المريض ذاته أن يوضح دلالة ما على مرض يمكن أن يكون أصابه، حتى لمعت فكرة في رأس الطبيب الجائع، فأخرج من جيبه بعض المال، وقال للمريض: منذ متى لم تأكل؟

قال الرجل منذ يومين، فأعطاه ناجي النقود، وقال له اذهب إلى المطعم، وتناول دجاجة مشوية بهذا المبلغ.

هو ذاته الذي سيروي معاصروه حكايات متعددة، بل ومتناقضة عن المرأة التي كتب لها قصيدته الأشهر "الأطلال"، والتي قالوا إن اسمها زوزو. هكذا ذهب الخيال إلى ثلاث شهيرات يحملن اسم زوزو ، وهن زوزو نبيل، وزوزو حمدي الحكيم، وزوزو ماضي، وشاع هذا الافتراض طويلًا في الأوساط الثقافية والفنية، ولكن بعض النقاد نفى هذه الرواية من أساسها، وأكدوا أن ناجي كتب القصيدة على مراحل طويلة، بل حتى متباعدة، على أوراقه الطبية، وجاءت حكاية "السيدات زوزو" من أحاديث متداولة عن عادة الفنانات أن يطلبن منه الكتابة عنهن شعرًا، وكان بدوره يجاملهن وحسب ، لأن "الحبيبة" التي كتب القصيدة لأجلها لم تكن واحدة منهن، بل كانت تلك التي لم يتزوجها، وتعرف عليها بعد سنين حين استدعاه زوجها ذات ليلة لمعاينتها وهي على وشك الولادة وفوجئ بها. ومع ذلك، ظل نقاد آخرون يؤكدون أن زوزو حمدي الحكيم هي الحبيبة المقصودة. زوزو حمدي الحكيم قالت في أحد اللقاءات الصحافية التي نقلتها جريدة "أخبار الأدب": "أنا ملهمة شاعر الأطلال"، وأعلنت أنها المرأة التي كتب فيها الشاعر إبراهيم ناجي قصيدته "الأطلال"، التي غنتها السيدة أم كلثوم بعد وفاته بـ13 عامًا. وتابعت: "في إحدى المرات سمعت أغنية السيدة أم كلثوم الأطلال، وشعرت أنني قرأت تلك الأبيات من قبل، وعدت إلى الروشتات التي كان يكتبها (ناجي) لوالدتي، ووجدت كل بيت من أبيات القصيدة على كل روشتة".
لا تخلو حياة إبراهيم ناجي كذلك من أوجاع السياسة ومآزقها. حين وقعت حركة "الضباط الأحرار" في مصر جاء من وشى بالشاعر عند بعض ضباطها باعتباره "معاديًا للثورة"، الأمر الذي تسبب له في آخر أيام حياته بمتاعب لم تخطر يومًا في باله.
مع ذلك، فقصيدة "الأطلال" التي منحته الشهرة الواسعة كانت في الحقيقة "حصيلة" اختيار أبيات من قصيدتين هما "الأطلال" و"الوداع"، وأن من قام باختيار الأبيات المطلوبة للغناء، وتعديل بعض الكلمات فيها، هو شاعر من اثنين اختلفت الروايات بينهما، وهما أحمد رامي، وصالح جودت، بل إن الاختيارات ذاتها عكست ذائقة الراحلة العظيمة أم كلثوم، التي شاءت أن تعود في تلك الفترة إلى غناء قصائد الفصحى، فيما شاء ملحنها رياض السنباطي أن يقدم عملًا غنائيًا متميزًا بعد النجاح الكبير الذي حققه محمد عبد الوهاب بأغنية "إنت عمري"، فكان لعشاق فن أم كلثوم "الأطلال" الخالدة.

تجربة إبراهيم ناجي الشعرية لم تأخذ حقها في الانتشار الواسع، أو النقد، بالشكل الذي حظيت به تجربة علي محمود طه، مثلًا. وناجي، في تقديري، كان الأقل سعيًا للشهرة، والأقل حضورًا في المنتديات والمناسبات الثقافية، وكان أقرب إلى النخبة التي ظل حاضرًا في أوساطها، ويشار إليه بوصفه الشاعر الفنان، المتميز الذي يمتلك فنيات عالية، خصوصًا أن شعره تجول في موضوعات كثيرة، أبرزها الحب.
زمن ابراهيم ناجي القصير (رحل عن أربعة وخمسين عامًا) كان عريضًا وغنيًا بالمعاني كلها، فالشاعر عاش منذ شبابه الأول زمنًا مزدحمًا بالأحداث الكبرى، وخصوصًا ثورة 1919 في مصر، وما ترافق معها، ونتج بفضلها، من تطورات في الثقافة والسياسة معًا. هو زمن الرغبة الشعبية العامة في التغيير والتطور، وهو في الوقت ذاته بدايات تحقيق نهضة صناعية على يد طلعت حرب، كما ازدهار السينما وتحولها إلى صناعة متكاملة لها حضورها الكبير في حياة الناس. سيذكر الجميع أن تلك العقود من حياة مصر تحققت خلالها مؤلفات طه حسين، بما حملته من تنوير استفاد إلى حد بعيد من ثقافته الغربية، مثلما شهدت إنشاء "جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا). هي حياة أخرى انعكست صورتها في نهوض صحافة مصرية حيوية وبالغة النشاط، وعكست صور الأدب الجديد، خصوصًا مجلة "الرسالة" التي أسسها وأشرف على تحريرها أحمد حسن الزيات، ونشر فيها كبار المبدعين والأدباء المصريين والعرب، وأصبح أرشيفها الذي وصلنا مرجعًا هامًا من مراجع الأدب العربي.
هو رجع الزمن البعيد، الرومانسي الهادئ، الذي نهل من نبع التأمل الطويل، كتب الشعر مثلما ترجم أيضًا، وكتب القصة، وكان خلال ذلك كله يبحث لأفكاره عن الجنس الأدبي الذي يعبر عنها ويليق بها، ونجح في أن يقف بثبات مع كبار شعراء عصره، بل وتميز بينهم بتلك العاطفة النبيلة التي ظلت تنتظم قصائده وتجعلها تقاوم الزمن وتعيش في وجدان قراء ومحبي الشعر.

جديد الأخبار