عرفت المرحوم المصطفى ولد محمد السالك خلال الفترة التي كنت فيها لا أزال تلميذا في ثانوية فيديرب بسانلوي. التقيت به مبكرا جدا حيث جاء من روصو إذ كان مدرسا في الترارزه، على ما أعتقد.
في ذلك اليوم كان مرفوقا برجل سيكون ـ طيلة حياه ـ صديقا حميما له؛ هو السفير لاحقا عبد القادر، نجل الشيخ التراد كمارا (رحمه الله). أعجبت على الفور بتكتمهما ولطفهما. كنا أصغر منهما وأتذكر لطفهما بشكل خاص حيث كنا نسكن عندهما قبل افتتاح العام الدراسي.
التقيت بالمصطفى رحمه الله، لاحقا في أطار قبل ذهابه إلى فرنسا حيث كنت في الثانوية وأقيم في القسم الداخلي. جاء لقضاء سنته الأولى من التكوين قبل الالتحاق بمدرسة سان ماكسان العسكرية. كان ضمن الدفعة الثانية من الضباط الموريتانيين. إلى جانب آخرين من بينهم العقيد الشيخ ولد بيده، محمد محمود ولد الحسين، أحمدو ولد عبد الله، والرئيس معاوية ولد الطائع. كانوا يستعدون ـ إذن ـ للتوجه إلى تلك المدرسة العسكرية ويقيمون في مقر الهندسة العسكرية بأطار. كان العسكريون الفرنسيون المشرفون على تدريبهم قد لاحظوا في المصطفى خصال القائد التي ستتكشف في لا حق مراحل حياته.
جدير بالتنويه أن الرجل كان الأول في دفعته عند تخرجه من مدرسة سان ماكسان، حيث تم منحه رتبة ملازم، مباشرة، بينما كل الآخرين، وهم أفارقة وأوروبيون مع الموريتانيين الأربعة الآخرين تخرجوا برتبة تربص.
التقيته، مرة أخرى، سنة 1963 حين بدأت مساري الوظيفي لأول مرة في أطار حيث كان ملازما شابا. يومها كان هناك ضابط صف موريتاني واحد في أطار هو أحمد فال ولد امبيريك الذي قاتل في الجزائر والهند الصينية ضمن القوات الفرنسية. ولدى عودته نفس السنة إلى أطار، اكتشف الفرنسيون أنه كان يزود جبهة التحرير الوطني الجزائرية بالمعلومات فقرروا محاكمته.
لم يكن ـ بطبيعة الحال ـ يواجه عقوبة الإعدام رميا بالرصاص وإنما الحرمان من بعض الامتيازات بما في ذلك حقه في التقاعد. ولم يجرؤ أي من الضباط الموريتانيين على الدفاع عن ولد امبيريك، لكن الملازم الشاب المصطفى ولد محمد السالك تطوع ليكون محاميا عنه.
كانت النتيجة مذهلة إذ تم إخلاء سبيل ضابط الصف، فردد الجميع ـ حينها ـ أن الأمر كان معجزة أو”حجاب”؛ إذ كان أداء المصطفى رائعا بشهادة الجميع، بما في ذلك الفرنسيون أنفسهم.
بعد ذلك كانت لي مع المصطفى لقاءات كثيرة. أذكر منها ملتقى الأطر والمناضلين الشباب بحزب الشعب الموريتاني. كانت لي مداخلة ربما صبيانية إلى حد ما ذكرت فيها بعض الحقائق التي لم يكن بعض الناس الأكبر سنا وتجربة مني قادرين على قولها. كان ذلك بحضور العديد من الضباط العسكريين من بينهم المرحوم أحمد سالم ولد سيدي والمصطفى ولد محمد السالك الذي قال لي بعدها : “لقد أحسنت القول يا سعيد”. فقلت له: “أظنني بالغت قليلا”. قال: “كلا.. الشباب لا يبالغون أبدا، تلك طبيعة سنهم!”…
خلال حرب الصحراء التقينا مجددا مرات عديدة، ولم أتفاجأ حين عين قائدا للمنطقة العسكرية بأطار، قبل الانقلاب بفترة قصيرة، وقبل تعيينه قائدا لأركان الجيش. كان يعتبرها حربا خاطئة لسببين رئيسيين: من جهة آلمه أنها حرب بين الأشقاء؛ ومن جهة أخرى كان المؤهل أكثر من غيره، بحكم موقعه العسكري، ليدرك أن البلاد لم تكن مستعدة للدخول في ذلك الصراع. ولقد كان يقول غالبا إن الحرب وحزب الشعب من أكبر الكوارث التي مرت بها موريتانيا.
كان يقول في حزب الشعب إنه يكره الانتهازية التي أتاحت لعديمي المؤهلات أن يتسللوا لى كل مواقع الحياة العامة في الدولة عبر استخدام الابتزاز والطرق الملتوية من أجل خلق مكان لهم.
ولأنني أعرف أن السلطة ليست ضمن أهداف المصطفى ولد محمد السالك ولا تروق له أصلا؛ فإنني أستطيع الجزم بأن مشكلتي خطأ حرب الصحراء وأضرار الحزب الواحد، هما ما دفع هذا الضابط المنضبط إلى الإقدام على خطوته يوم 10 يوليو 1978.
عندما وقع الانقلاب كنت مستشارا بسفارة موريتانيا في الرباط. فهرع طاقم السفارة؛ كما في جميع السفارات الموريتانية يومها؛ إلى توقيع ملتمس تأييد للجنة العسكرية للإنقاذ الوطني.. باستثنائي أنا.. لأنني بكل بساطة (وقد شرحت ذلك للسفير حينها الشيخ سعد بوه كان) “موظف ولا أستطيع أن أقول للنظام القائم؛ سواء أكان جديدا أم قديما، مدنيا أم عسكريا؛ إني أزكيه!”.
ومع ذلك تم استدعائي، بعد ثلاثة أسابيع على وقوع الانقلاب، وعرض علي أن أكون أمينا عاما للرئاسة.. ولأنني لا أحب أن أفشل، طلبت منهم وظيفة أخرى، تكون ملامة لتخصصي وأقل تعقيدا من التي عرضوها علي، والتي تتطلب من وجهة نظري مسؤوليات خاصة.
قلت للرئيس المصطفى، يومها، إنني أخشى أن لا أكون قد بلغت من النضج ما يسمح لي بتولي مسؤوليات بهذا المستوى.. لكنه رد علي بسؤال: “وهل نحن ناضجون لتولي إدارة الدولة كلها؟ لا يوجد خيار.. لا بد من توليك هذا المنصب”.. رحمه الله.
ونظرا لروح التسامح التي يتحلى بها كان يرفض أن يكون وصول الجيش إلى السلطة مناسبة لتصفية الحسابات. أتذكر برنامجا إذاعيا لاذعا ضد النظام السابق كان يستعرض قضايا ب بعضها حقيقي وبعضها أكاذيب على أنها “جرائم وأغلاط النظام البائد”؛ إذ كان هذا هو عنوان ذلك البرنامج الذي انتشر صيته لمدة أسبوعين وتحدث فيه الكثير من الأشخاص.
استدعاني الرئيس المصطفى وقال لي صراحة: “إذهب مع صديقك زير الإعلام وحاول معه وقف هذا البرنامج لأنه يذكرني ببرامج إذاعة غينيا التي كانت تجلب أشخاصا أبرياء ليعترفوا بجرائم وهمية”. وقد ترجمت تلك الكلمة الأخيرة بعبارة “خيالية”..